أخبار السعودية

الشيخ سعود الشريم: إن من مؤكدات سعادة المرء في دنياه أن يدرك أبويه على قيد الحياة

اكلة فى دقيقتين

تحدث فضيلة إمام وخطيب المسجد الحرام الشيخ الدكتور سعود بن إبراهيم الشريم، في خطبة الجمعة اليوم، عن بر الوالدين، قائلا: إن ثمة حقا بشريا عظيما، له من الهيبة والوقار ما ليس لغيره، إنه حق لا منة فيه لمن أداه، ولا براءة من اللؤم والسوء لمن تهاون فيه، وإنه لا أقبح فيه بين الناس من حور بعد كور، ولا من نقض بعد غزل، ولا أشد مضاضة فيه من نكران تجاه جميل، ولا غدر تجاه وفاء، ولا غلظة تجاه رحمة، ولا عقوق تجاه بر، بل إنه لا أخسر من امرئ يفتح له باب من أبواب الجنة فيأبى ولوجه بمحض إرادته، بل يقف دونه مستنكفا ثم يستدير ليجعله وراءه ظهريا، نائيا بنفسه عن ولوج ما فيه سر فلاحه وسعادته في دنياه وأخراه.
إنه بر الوالدين الذي هو باب من أبواب الجنة مشرع للإحسان إليهما ومصاحبتهما في الدنيا بالمعروف والبذل وخفض جناح الذل لهما بالرحمة.
وقال الشريم: الأبوان عباد الله هما للأولاد في مهام دنياهم، كالشمس والقمر، بهما يستضيؤون دروبهم، ويؤونسون وحشتهم، ويستلهمون سلوتهم، فهما كما قال يوسف لأبيه عن رؤياه(يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين)فكأن الأب شمس؛ لما يبذله من الكدح والكسب لولده في النهار، و كأن الأم قمر لما توليه من سهر له وشفقة عليه في الليل.
وإن من مؤكدات سعادة المرء في دنياه: أن يدرك أبويه على قيد الحياة لينهل من معين برهما ويرتوي من كيزان حنانهما، ويستظل بفيء رضاهما، فهما جناحاه في جو الدنيا وزخرفها الفانية، وهما موئله الحاني حين تعترضه مواجع الحياة وأكدارها، فإن الشيب الذي يراه وخط أبويه إنما يلخص له قصة النعيم الذي يعيشه في حاضره، إنهما من شقيا ليسعد، ومن نصبا كي يستريح، إنهما ليسهران لأجل أن يرقد، ويخافان ليطمئن، وترتعد فرائصهما، ويحتبس دمعهما حين يخرج فلا يرتد إليهما الأمن إلا حين عودته.
الأبوان عباد الله: هما من يبكيان ليبتسم أولادهما، وهما من يحزنان ليفرح أولادهما، وهما من يشقيان ليسعد أولادهما، إنهما اللذان يجوعان ليشبعوا، ويعطشان ليرتووا، إنهما في الحقيقة كتلكم الشمعة التي تحترق حتى تذوب ليستضيء الأولاد باحتراقها، إنه قلب الأم والله جل وعلا يقول(وأصبح فؤاد أم موسى فارغاً)،وإنها عين الأب والله جل شأنه يقول(وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم) .
إنها غاية المشاعر الجياشة، والعواطف النابضة أن يفرغ قلب الأم وأن تبيض عين الأب لأجل أولادهما(فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا).
فيالله ما أسعد من مات عنه أبواه أو هو مات عنهما وهما عنه راضيان، لله ما أسعده وما أهناه، ولله ما أحسن ما جاء عن إياس بن معاوية أنه لما ماتت أمه بكى عليها بكاء شديدا، فلما سئل قال: كان لي بابان مفتوحان إلى الجنة، فأغلق أحدهما.
ثم يالله ما أخيب من ماتا عنه أو مات عنهما وهما عليه غاضبان، ألا ما أضله وما أخسره، بعدا له وسحقا،فإن الله قد قرن الإحسان بهما مع عبادته فقال : (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا)
وقرن شكرهما مع شكره فقال: (أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير)،بل إن الله جل وعلا جعل بر الوالدين من أسباب قبول العمل والتجاوز عن السيئات كما قال في كتابه(ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا حملته أمه كرها ووضعته كرها وحمله وفصاله ثلاثون شهرا حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك وإني من المسلمين أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون).
وقد قال الفاروق رضي الله عنه لأويس القرني : سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ” يأتي عليكم أويس بن عامر .. الحديث، إلى أن قال: له والدة هو بها بر، لو أقسم على الله لأبره، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل فاستغفر لي فاستغفر له “رواه مسلم.
إن الفؤاد إذا لامس شغافه بر الوالدين كان له حصنا منيعا من الكبر والغلظة والعقوق والنكران،فإن البر طبع متين طارد لخصال السوء والسفساف،فما رأى الناس بارا خبيث الطبع، ولا رأوا خبيثا بارا؛وقد أحسن الخليفة الراشد عمر بن عبدالعزيز حين قال لابن مهران،لا تصاحب عاقاً،فإنه لن يقبلك وقد عق والديه،ولا عجب عباد الله،فإن الله جل شأنه فارق بين الجبروت وبين البر بالوالدين كما في قوله عن عيسى عليه السلام(وبرا بوالديه ولم يكن جبارا عصيا).
إنه لن يحبك أحد كحب والديك لك،إنهما يأخذان من نفسيهما ليمنحانك،نعم قد لا يمنحانك كل شيء تريده،لكنهما دون ريب أنهما قد منحاك ما يملكانه.
إذا علم ذلكم عباد الله : فإن البر أمانة يحملها الأولاد على عاتقهم ما داموا أحياء،فالبر لا يهرم ولا ينبغي له أن يهرم،بل لا تزيده الأيام والسنون إلا جمالا وصلابة وتجددا،فبر الوالدين ينبغي أن يكون شابا لا يشيخ،وإن شاخ الآباء والأولاد،ولا ينبغي أن يكون عبئا ثقيلا يتقاسمه الأولاد بينهم تقاسما وظيفيا خروجا من المسؤولية وانسلالا من التبعية،وإنما البر في الحقيقة دِين ودَين،فهو سباق ديني أخروي يتلذذ به البار ليفضي به إلى باب من أبواب الجنة،وكذاك هو وفاء دين دنيوي يقضي به المرء ما في ذمته لوالديه من معروف،وإنه مهما قضى من ذلكم المعروف فلن يوفيهما حقهما بالغا ما بلغ من الجهد والبر،فقد رأى عبدالله بن عمر -رضي الله عنهما- رجلاً من أهل اليمن حمل أمه على عنقه،فجعل يطوف بها حول البيت، وهو يقول : إني لها بعيرها المذلل إن أذعرت ركابها لم أذعر،الله ربي ذو الجلال الأكبر،حملتها أكثر مما حملتني فهل ترى جازيتها يا ابن عمر: قال: لا، ولا بزفرة من زفراتها،يقصد زفرات الولادة.
لقد ضرب لنا سلفنا الصالح أروع الأمثلة في البر بالوالدين،حتى إن أحدنا ليحقر بره أمام برهم،وإن من برهم بوالديهم ما جاء عن أسامة بن زيد :
كانت النخلة تبلُغُ بالمدينة ألفا،فعمَد أسامة بن زيد إلى نخلةٍ فقطعها من أجل جُمَّارها،فقيل له في ذلك،فقال: إن أمِّي اشتهَتْه علَيَّ، وليس شيء من الدنيا تطلبه أمِّي أقدر عليه إلا فعلتُه.
وكان أبوهريرة إذا أراد أن يخرج من بيته وقف على باب أمه فقال: السلام عليك يا أماه ورحمة الله وبركاته،فتقول: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته،فيقول: رحمك الله كما ربيتيني صغيراً،فتقول: رحمك الله كما بررتني كبيراً.
وقال سعيد بن سفيان الثوري: ما جفَوتُ أبي قط،وإنه ليدعوني وأنا في الصلاة غيرِ المكتوبة فأقطعها له.
وعن عمر بن ذر: أنه لما مات ابنه قيل له: كيف كان بره؟ قال: ما مشى معي نهارا قط إلا كان خلفي،ولا ليلا إلا كان أمامي،ولا رقِىَ على سطح أكون تحتَه.
إذا كانت تلكم أمثلة سطرها سلفنا الصالح في برهم بوالديهم،فثمة خلوف في أعقاب الزمن قد سطروا أسوأ الأمثلة وأقبحها في عقوق الوالدين،من خلال هجرانهما أو التأفف منهما،أو تقديم الأصحاب والزوجات عليهما،ناهيكم عن إهمالهما واعتبارهما عبئا ثقيلا عاقبته الزج بهما في المصحات ودور الرعاية،وربما عجت المحاكم والشرط بصور مفجعة من عقوقهما،عافانا الله وإياكم من ذلك.
أما يعلم العاق أنه بعقوقه هذا يعد مصرا على كبيرة من كبائر الذنوب؟التي قال النبي -صلى الله عليه وسلم- عنها :(ألا أنبئكم بأكبر الكبائر قالها ثلاثا؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله،وعقوق الوالدين،وجلس وكان متكئا،فقال: ألا وقول الزور) رواه البخاري ومسلم.
ألا فليتأمل العاق مليا أن الجزاء من جنس العمل،وأنه كما يدين المرء يدان،وأن جزاء السيئة سيئة مثلها،وأن البر في أكثر الأحيان يلحق،والعقوق كذالكم،وليتأمل بكامل فكره في ما ذكره بعض أهل العلم في كتب البر والصلة عن واقعة حصلت لبعض الناس يقول فيها: كنت أطوف بالأحياء،حتّى انتهيت إلى شيخ في عنقه حبل يستقي بدلو لا تطيقه الإبل في الهاجرة والحرّ شديد وخلفه شاب في يده حبل من جلد مدبوغ،ملويّ يضربه به،قد شقّ ظهره بذلك الحبل،فقلت: أما تتّقي الله في هذا الشّيخ الضّعيف؟ أما يكفيه ما هو فيه من هذا الحبل حتّى تضربه؟ قال: إنّه مع هذا أبي. قلت: فلا جزاك الله خيرا. قال: اسكت فهكذا كان هو يصنع بأبيه،وهكذا كان يصنع أبوه بجدّه. فقلت: هذا أعقّ النّاس.
ألا ما ألأم من عامل والديه بسوء وما أحقره،كيف يهنأ وهما عليه غاضبان،وكيف يفرح وهما منه حزينان،وكيف يشبع وهما بسببه جائعان،كيف يقدم أهله وولده عليهما في الإحسان،كيف يفعل بهما ذلك وهما من غسلا بأيديهما عنه الأَذى وآثراه على نفسيهما بالشراب والغذاء، وصيرا حجرهما له مهدا،وإِنْ أَصابه عارض أَو شكاية أَظهرا من الأسف ما يهد قواهما،ولو خيرا بين حياته وموتهما لآثرا حياته على حياتهما.
إن الأم ستظل أما والأب سيظل أبا مهما ارتفع ضجيج أولادهما،ومهما اتسع شقاقهم،واستفحل عقوقهم،فحقوق الوالدين لا تسقط بالتقادم،وعقوقهما لا يغسله ماء البحر،ولا كفارة للعقوق بعد التوبة الا البر والبر والبر لا غير.
فيا أيها العاقون البدار البدار بالتوبة الخالصة والبر الصادق قبل فوات الأوان برحيلهما من هذه الدنيا،فإنهما لن يريا دموعكم التي ستذرفونها بعد أن تغادر روحهما جسديهما،ولن يشعرا بقبلاتكم لجثمانهما ولا بضمكم لهما ولا بتنهيداتكم لرحيلهما،فلا قيمة لشيء من ذلكم البتة ما داما لم يرياها منكم وهما على قيد الحياة،فتالله وبالله لقد رغمت أنوفكم ثم رغمت أنوفكم ثم رغمت أنوفكم أن تدركوا أبويكم فلم يدخلاكم الجنة.
جاء رجلُ لعبد الله بن عباس وقال له: “قتلت نفسا فهل لي من توبة؟فقال له:أمك حيَّة؟
قال:لا،فقال له: أكثر من الاستغفار،ولما انصرف الرجل قال عطاء بن يسار
لابن عباس: يا ابن عم رسول الله رأيتك سألته عن أمه
فقال ابن عباس: لا أعلم عملا أحب إلى الله من بر الوالدة” رواه البخاري.
أما الخطبة الثانية فقال الشيخ الشريم: اتقوا الله عباد الله،واعلموا أن للثمر بذرا،وللبذر سقاية،فكذلكم البر له بذر وله سقاية،فحري بالوالدين أن يحسنا تربية الأبناء وينشئانهم نشأ صالحا،وإنما يكون الجذاذ يوم الحصاد،فعند الجذاذ يتبين حلو الثمار من مرها،ومن أحسن غراسه حسن قطافه،والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا.
ثم اعلم أيها الأب،واعلمي أيتها الأم: أن بر الوالدين نتيجة لمقدمة سابقة من التربية الحسنة والعاطفة والعدل والبذل،فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم ليكونوا لكم في البر سواء.
(دخل الأحنف بن قيس على معاوية بن أبي سفيان ويزيد ابنه بين يديه،فقال معاوية سائلا الأحنف: يا أبا بحر ما تقول في الولد؟،فقال: يا أمير المؤمنين،هم عماد ظهورنا،وثمر قلوبنا،وقرّة عيوننا،بهم نصول على أعدائنا،وهم الخَلَف منّا لمن بعدنا،فكن لهم أرضا ذليلة،وسماء ظليلة،إن سألوك فأعطهم،وإن استعتبوك فأعتبهم،لا تمنعهم رفدك فيملّوا قربك،ويكرهوا حياتك ويستبطئوا وفاتك،فقال معاوية: لله درّك يا أبا بحر،هم كما وصفت).
ثم احذروا أيها الأولا أشد الحذر من أن يدعو عليكما الأب أو الأم،فإنه لا يدعو أحد منهما على ولده إلا لعقوق عظيم ناله منه،بعد أن حمله صغيرا وأطعمه جائعا وكفكف دمعه باكيا فلما شب عن الطوق ورأى أنه قد استغنى بعقله وقواه سل سيف عقوقه وانتزع سهم نكرانه،فلمثل ذلكم تخرج الدعوات الصادقات منهما،فويل لمن دعا عليه أبواه ويل له ثم ويل له،فإن الدعوات لا ينطقها إلا لسان أم أو أب سحقهما الإحساسُ بعقوق ولدههما سَحقا،وشرقا بمرارة جحوده شرقا،ولا تسألوا حينئذ عن نفس منكسرة،ومرارة تذكي تلكم الدعوات،ولا عجب فهي دعوة مكلوم قمن أن يستجاب لها،كما نقل بعض السلف عن أحد السالفين يدعو على ولده العاق قائلا:
وإنِّي لداعٍ دَعْوةً لو دعوتُها
على جبلِ الريَّانِ لانفضَّ جانبُهْ
فاتقوا الله أيها الأولاد،وإياكم واحتقار كلمة أف،فهي وإن كانت من أقل الكلمات حروفا وأهونها نطقا إلا أنها من أبينها جرما وأوجزها عقوقا،واعلموا كذلكم أنه من اتقى والداه ردود أفعاله فهو عاق دون ريب،وأنه كما قال عروة بن الزبير: مابر والديه من أَحَدَّ النظر إليهما.
ثم لتتق الله أيتها الزوجة وأيها الزوج،وليكن كل واحد منكما عونا للآخر على بر والديه،فبئست زوجات الأبناء وبئس أزواج البنات إذا لم يكونوا عونا على بر الوالدين وصلتهم.