منوعات

بئر الهمل الأثرية.. كتاب تاريخ بعمق مليون عام | قل ودل

هنا ستشعر أنك تتصفح كتابًا تاريخيًا، يمتد لأكثر من مليون عام، إذ تحمل بئر الهمل في طياتها صورة واضحة، نقلت لنا التقدم التكنولوجي الهائل على مر العصور، وهو ما بدا جليًا من خلال طبقاتها العلوية والسفلية، والتي عكف العلماء على دراستها، ليتم تسجيل المنطقة فيما بعد، كأحد أهم المراجع التاريخية في الشرق الأوسط.

بئر الهمل

عُرفت بئر الهمل سابقًا باسم “بير عنوزي”، وهي من المواقع الأثرية العتيقة، إذ تضم بئرا محفورة ضمن تلة رقيقة جدًا أشبه بالهضبة، والتي تقع على بعد 2كم شمال شرق قرية الكوم، بمحافظة حمص، سوريا، ويمثل عمق البئر نحو 25 مترا، إذ تتميز باتساعها من الأعلى، لتنحدر بضيق شديد حتى الأسفل.

تعود أهمية البئر التاريخية لكونها أحد الأماكن التي تمثل صورة بارزة، تعود إلى العصر الحجري البدائي، إذ تتراكم بداخلها سلاسل رملية كثيفة، يتخللها أكثر من 30 طبقة حجرية على عمق 20 مترا تقريبًا، وقد توصل العلماء إلى أن هذه الطبقات تعود إلى العصور “اليبرودي، الأشولي، اللفلوازي، الموستيري”، بالإضافة إلى عصر الباليوليت العلوي، يليه العصر الحجري الوسيط والحجري الحديث.

أحفورة الجمل العملاق

بئر الهمل

بالإضافة إلى ذلك، كان السبب الرئيسي في شهرة بئر الهمل، اكتشاف أحفورة عظام الجمل العملاق بها، أو الجمل السوري كما يطلق عليه، وهو نوع منقرض من الجمليات، إذ عُثر على بقايا الهيكل العظمي للجمل في البئر، خلال إحدى عمليات البحث للبعثة السورية السويسرية، في بادية الشام الشرقية، وقد أوضح الباحثون أن حجم الجمل كان ضخمًا بدرجة لا توصف، إذ يوازي حجمه تقريبًا حجم الفيل الإفريقي، كما يبلغ ارتفاعه بين 3 و4 أمتار.

كيف بدأ التنقيب؟

بدأ التنقيب عام 1996، وفقًا لما ذكره البروفسور “جون ماري لوتانسور”، من خلال البعثة الفرنسية التي قدم معها، والتي سعت لاكتشاف بعض المناطق الأثرية في سوريا، خاصة في منطقة حوضة الكوم، مما أسفر عن اكتشاف الكثير من الترسبات، لحقبة زمنية غير معروفة في منطقة الشرق الأوسط.

هكذا وبعد بضعة أيام من التنقيب، وجد الباحثون الكثير من الأدوات الصوانية البدائية، المصقولة من الوجهين، والتي اتضح أنها تعود إلى الحقبة الآشولية، وقد أوضح البروفسور “جون ماري” أن الإنسان البدائي كان يستخدم هذا الحجر الصوان بكثرة، إذ كان يتوافر على بعد نحو 10 كيلومترات من بئر الهمل، واستشف من ذلك أن الأناس الذين عاشوا تلك الحقبة، كانوا يجلبون الحجر للمنطقة، لتصنيع الأدوات الخاصة بهم.

تطور عبر العصور

جدير بالذكر أن الإنسان في هذه العصور، كان يستخدم جزءا من الحجر الصوان بوزن كيلو جرام، لصناعة قطعة واحدة مثل السكين، والتي لا تتجاوز حافتها القاطعة 10 أو 20 سم، ومع تطور العصور، تحديدًا في العهد اليبرودي، تطورت التقنيات وأصبح يصنع من نفس الكمية المستخدمة، ما بين 10–20 أداة، تتراوح حافتها بين 50–60 سم، حتى وصل التطور إلى قدرتهم على تصنيع 20–30 أداة، بنفس الكمية من الصوان، لتصل الحافة القاطعة في هذه المرة، إلى 4 أمتار تقريبًا.

عودة إلى الإنسان البدائي

بالإضافة إلى الاكتشاف الأهم على الإطلاق، في منطقة الشرق الأوسط في ذلك الوقت، إذ وجد الباحثون بقايا جمجمة تعود لإنسان بدائي، والتي تم تقدير عمرها بنحو 500–600 ألف سنة، وقد علق البروفسور “لوتانسور” بهذا الصدد قائلا: إن هذه الموقع العظيم يعد دليلا قاطعًا على أن الإنسان البدائي عاش في هذه المناطق.

هكذا توقف التنقيب لفترة، ولكن الوسط العلمي بأكمله لم ينفك عن انتظار المزيد، من النتائج المبهرة للأبحاث والأعمال الاستكشافية، وهو ما أكده وليد أسعد، مدير متحف وآثار “تدمر”، إذ أشاد بأهمية استمرار الدراسات والأبحاث في الموقع، مشيرًا إلى أن تواجد الإنسان بالمنطقة قد يتجاوز المليون عام، لذا فإنه من الضروري إثبات صحة النظرية والتفسيرات أو نفيها، وهو الأمر المترتب على استكمال نتائج البحث العلمي.

استئناف التنقيب

بحلول عام 1997، استكمل البروفسور “لوتانسورر” أبحاثه بصحبة زوجته، ولكن هذه المرة ضمن بعثة سورية سويسرية مشتركة، كانت مهمتها التنقيب في موقع الهمل، لإيمانه الشديد بأنه سيجد قطعا أثرية استثنائية جدًا.

وبالفعل لم يخب ظنه، فقد كشفت الأعمال المتواصلة ليلا ونهارًا عن بئر الهمل، والتي حملت في طياتها حقبا مختلفة من العصور البدائية، تُشعرك أنك أمام أحد كتب التاريخ، إذ امتدت هذه الحقب لأكثر من مليون سنة، وفقًا لنتائج الدراسات التي قام بها المؤرخون، والتي أظهرت أن جميع الحقب تقريبًا متمثلة في هذه الترسبات العتيقة، القابعة في أعماق البئر، مما جعل المنطقة بمثابة مرجع متكامل في هذا المجال، تفَوَق على موقع “تابون” بجبل الكرمل في فلسطين، والذي كان يمثل أهم وأشهر المواقع في الشرق الأوسط.

مرجع تاريخي

بئر الهمل

هكذا عكف الأخصائيون وكرسوا كل جهودهم، لدراسة أقسام الترسبات واحدة تلو الأخرى، وقد ذهلوا عند وقوفهم أمام الطبقة الأولى من الترسبات، إذ تمثل حقبة زمنية يصل عمرها إلى 100 ألف عام، تجسد لنا مشهدًا حيًا، يسمح بمعرفة التطور الذي مر به الإنسان، على مر العصور، سواء في أعمال الصيد أو الزراعة، وغيرها من الممارسات التي خولته للعيش تحت وطأة هذه الظروف.

بالإضافة إلى ذلك، فقد سمح اكتشاف بئر الهمل أيضًا، بمعرفة المحيط الذي كان يعيش فيه الإنسان البدائي، والفترات الرطبة والجافة التي مرت بها المنطقة، إذ كانت التقلبات المناخية في الماضي شديدة، أكثر حرارة وأكثر برودة من اليوم، كذلك استطاع العلماء التوصل إلى الثورات المناخية، والكثير من الهزات الأرضية التي حدثت على مر العصور، “وفقًا لما ذكره البروفسور جون ماري لوتانسور”.

كما أضاف الخبراء أخيرًا، أن دراسة المنطقة أظهرت تأثير التعاقب، للفترات المناخية المتباينة، على الإنسان البدائي في ذلك الوقت، إذ وُجد أن تمركزه بالقرب من مصادر المياه، كان يزيد بنسبة كبيرة خلال الفترات الجافة، بينما ينعدم خلال الفترات الرطبة، حيث كان يعيش عادةً بالقرب من الأنهار، وفي الغابات المجاورة.

مصدر 1مصدر 2