منوعات

دور الأسرة في أمن المجتمع

دور الأُسرة في أمن الـمجتمع[1]

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:

فإن أمن المجتمع واستقراره من أهم أسباب قوته وعزته ورفعته وتقدمه؛ لأن الفرد فيه يكون آمنًا على نفسه وأهله وماله، الأمر الذي يدفعه إلى دوام العمل والإنتاج بل وزيادته والابتكار والإبداع والتفكير الإيجابي في كيفية البناء والتطوير والتقدم، ولا يمكن أن يكون المجتمع ناجحًا ومنتجًا إذا كان غيـر آمنٍ وغير مستقر.

 

وعلى الرغم من كثرة تعريفات مصطلح (الأمن) إلَّا أن المقصود بالأمن الاجتماعي يعني: (اطمئنان الفرد والأسـرة والـمـجتمع على أن يحيوا حياةً طيبةً، لا يخافون فيها على أنفسهم وأموالهم وعقولهم ونسلهم وممتلكاتهم).

 

وهناك من يرى أن الأمن يعني: (سلامة الأفراد والجماعات من الأخطار الداخلية والخارجية التي قد تُهدِّد حياتهم وتحرمهم الطمأنينة والاستقرار).

 

وعلى الرغم من اختلاف تلك التعبيرات إلَّا أن مفاهيم الأمن الاجتماعي جميعًا تدور حول توفير حالة الأمن الشامل، والاستقرار العام، والطمأنينة في المجتمع بحيث يستطيع الأفراد التفرغ لأعمالهم وظروف حياتهم.

 

وفي حالة غياب الأمن فإن المجتمع يكون في حالة شلل وتوقف؛ لأن العمل والبناء والإنتاج والإبداع لا يتحقق ولا يزدهر إلَّا في حالة السلام والاستقرار.

 

ولأهمية الأمن الـمجتمعي بعامة؛ فإن مسؤوليته تقع على عاتق كل إنسان يعيش على أرض الوطن من مواطنين ومقيمين، فهم الذين سوف ينعمون بالراحة والطمأنينة فيه، وبالطبع فإن المسؤولية الأولى تقع على الأسـرة؛ باعتبارها المنظمة أو المؤسسة الاجتماعية التي يخرج منها الـمواطن الصالح؛ لذا يجب على الأسـرة أن تعـي دورها تمامًا تجاه أمن المجتمع، وأن تقوم بدورها المنشود في هذا الشأن.

 

وقبل أن نتكلم عن إسهام الأُسرة في تحقيق الأمن المجتمعي نقف وقفة عاجلة مع المقصود بالأُسرة في الإسلام حيث تتكون الأسـرة في المجتمع الإسلامي- في الغالب- من مجموعة أفرادٍ تجمعهم فيها ظروف المعيشة الواحدة، وتربطهم رابطةٌ شـرعيةٌ قائمةٌ على المودة والرحمة انطلاقًا من معنى قوله تعالى: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الروم: 21].

 

ويأتي من أهم الوظائف التي يجب أن تُقدمها الأُسـرة لأعضائها- وبخاصةٍ الصغار منهم- العمل على إشباع حاجاتهم الضـرورية الـمُتمثلة فيما يُعرف بالحاجات الأساسية للنمو وتوجيه السلوك في الحياة، سواءً أكانت هذه الحاجات عضويةً أو غير عضوية، نفسيةً أو جسميةً أو اجتمـاعيةً.

 

ويأتي من أبرز هذه الحاجات التي لا غنى للإنسان عنها، ما يلي:

الحاجة إلى النمو الجسمي والعقلي.

الحاجة إلى الحُرية في التعبير والاستقلال الشخصي الـمنضبط.

الحاجة إلى زرع الثقة والاعتمـاد على النفس.

الحاجة إلى التقدير الاجتمـاعي.

الحاجة إلى العدل والمساواة.

الحاجة إلى المحبة والعطف والحنان المُتبادل.

الحاجة إلى الشعور بالأمن والاطمئنان النفسي.

الحاجة إلى اللعب والحركة والنشاط.

الحاجة إلى التوجيه الصحيح والقيادة الواعية.

الحاجة إلى القدوة الصالحة والأُسوة الحسنة داخل الأُسـرة.

وغيرها من الحاجات الأُخرى.

 

كما أن من أهم الوظائف التي تقوم بها الأُسـرة ولها علاقة بالأمن المجتمعـي ما يُعرف بالتربية الاجتمـاعية، وتتمثل في تربية الإنسان منذ الصغر وضبط سلوكياته، وصيانة فطرته عن الانحراف، وتعريف أفراد المجتمع بين فترةٍ وأُخرى بأخطائهم وأوجه القصور في تعاملاتهم، والعمل على تصويبها وتعديل الخاطئ منها، والحرص على تقديم النصح والإرشاد والتوجيه الصحيح الذي يُبين ويُحدد ما لهم من الحقوق وما عليهم من الواجبات.

 

وهذا معناه أن للأُسـرة دورًا فاعلًا وضروريًّا جدًّا في العملية الرئيسية التي يتم بموجبها تحويل الإنسان من مجرد كائنٍ حيٍّ إلى كائنٍ حيٍّ اجتمـاعي، ومن ثم تـحويل سلوكه من سلوكٍ فرديٍّ إلى سلوكٍ اجتمـاعي، يتعرف من خلاله على التفرقة بين الحق والباطل، والخـطأ والصواب، والحسن والقبيح.

 

والـمعنى أن الدور الأمني لا يمكن أن يتحقق إلا في ظل أُسـرةٍ واعيةٍ تحرص على القيام بدورها في الحياة، وتحقيق الأمن الشامل لأبنائها.

 

وهنا لا بُد من الإشارة إلى أن مصطلح الأمن الشامل يضم: الأمن النفسي، والأمن الفكري، والأمن الغذائي، والأمن العقدي، والأمن الاقتصادي، والأمن الصحي، والأمن المعرفي، والأمن الاجتماعي، والأمن الثقافي،… إلخ، بصورةٍ تُشبع حاجات الأفراد النفسية والعضوية التي تكون نتيجتها الطبيعية متمثلةً في الرغبة الأكيدة في انتشار الأمن والأمان، وتوافر الطمأنينة في كيان المجتمع كله.

 

إلَّا أنه يُمكن القول: إن مجريات الأحداث التي تشهدها المجتمعات البشرية قد أكدت على أهمية دور الأسرة الكبير في عملية استتباب الأمن وتحقيق الاستقرار والطمأنينة التي تنعكس آثارها على الأفراد والمجتمعات سلبًا أو إيجابًا.

 

وهذا ما يؤكد الحقيقة التي تقول: ((إنَّ قوة الأُسـرة هي قوةٌ للمجتمع، وضعفها ضعفٌ له)).

وحقيقة الأمر تؤكد أن الأمن والأسـرة مكملان لبعضهما، وبينهما رابطٌ وثيقٌ؛ فلا حياة للأسـرة إلا باستتباب الأمن، ولا يمكن للأمن أن يتحقق إلا متى وجدت البيئة الأسرية المترابطة، وتوافر الجو الاجتماعي الذي يسوده العطف والتآلف والتقدير والاحترام والمودة والرحمة والشفقة، وتنتشـر ثقافة حب الخيـر بين أفراده، الأمر الذي يكفل بإذن الله تعالى تحقق الأمن الشامل والاستقرار الدائم، الذي يحمي المجتمع من المخاوف، ويبعده عن الانحراف، ويمنعه من ارتكاب الجرائم.

 

والسؤال الذي يفرض نفسه يقول: كيف يُمكن للأُسـرة في مجتمعنا أن تُسهم في تحقيق الأمن المجتمعـي الـمطلوب؟

 

وتأتي الإجابة لتوضِّح أن تحقيق الأمن المجتمعـي يستلزم الآتي:

أولًا: الحرص على حقيقة التمسُّك بالعقيدة الإسلامية الصحيحة التي لا يمكن أن يتحقق الأمن إلَّا في ظلِّها، وهي العقيدة الإسلامية الصافية التي تتفق مع فطرة الإنسان التي فطره الله تعالى عليها؛ لأن للدين والتدين أثره الواضح في النمو النفسي والصحة النفسية، والعقيدة حين تتغلغل في النفس فتدفعها إلى سلوكٍ إيجابيٍّ صحيحٍ قويم، يساعد الفرد والمجتمع على الاستقرار، فالإيمان يؤدي إلى الأمان، وينيـر الطريق أمام الإنسان منذ طفولته ومرورًا بـمـراهقته إلى رشده، ثم شيخوخته.

 

ثانيًا: أن يكون المجتمع حامدًا لله تعالى وشاكرًا لأنعُمه التي أسبغها الله تعالى عليه؛ إذ إن الأمن الدنيوي الذي يرزقه الله الأمم والمجتمعات على مر التاريخ، لا يمكن أن يدوم مع الكفر، فإذا حصل الكفر ولا سيما كفر النعم أبدلها الله بالخوف، والجوع، والحياة المضطربة، والضنك، والفقر، وعدم الاستقرار، قال تعالى: ﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ﴾ [النحل: 112].

 

ثالثًا: غرس مفاهيم حب الوطن والانتماء الصادق، وترسيخ معاني الوطنية في نفوس أفراد الأُسـرة على مدى سنوات العُمر، فالوطن امتدادٌ لحياة الآباء والأجداد، واستمرارٌ لهم ولمعنى حياتهم من خلال أبنائهم وأحفادهم في المستقبل، شـريطة أن يعـي الأب والأم معنى الوطنية والانتماء على النحو الإيجابي السليم دون تطرفٍ أو عصبيةٍ مقيتةٍ قبل أن ينقلوها إلى أبنائهم.

 

رابعًا: تذكير الأبناء دائمًا بأن كل الخدمات والتسهيلات والمعطيات الحضارية التي يوفرها المجتمع، إنما هـي من أجل راحة المواطن وسعادته، فالطُّرق، والمُنشآت، والمطارات، والمتـنـزهات، والحدائق، والمدارس، والجامعات، والمستشفيات… إلخ ليست سوى أمثلة على ما يقدمه الوطن لأبنائه من خدمات.

 

ويجب عليهم أن يدركوا حجم تكاليف هذه الخدمات التي تُصـرف عليها حتى تصل إليهم فيستفيدون منها، ويستمتعون بها، وعليهم أن يقدِّروا لوطنهم توفيـر مثل هذه الخدمات التي قد لا تتوفر بسهولةٍ لأبناء المجتمعات الأخرى، وبذلك تعزِّز الأسـرة حب الوطن في نفوس الأبناء.

 

خامسًا: حث الأبناء على حسن التعامل، والاستخدام الأمثل لكل ما يقدمه الوطن ويهيئه من خدماتٍ مجتمعية، وتعويدهم المحافظة عليها بِدءًا من محتويات المنـزل ومرورًا بمحتويات المدرسة، وانتهاءً بالمنشآت العامة؛ كالمتنـزهات والحدائق والمرافق العامة الأخرى، على اعتبار أن ذلك من علامات حُب الوطن، والولاء له، والحفاظ على معطياته، ومنجزاته التي تُكلف الوطن بعامة الكثير من الجهد والمال.

 

سادسًا: ضـرورة تغيير الـمفاهيم السائدة والخاطئة لـمقياس الرجولة في ثقافة مـجتمعنا؛ فالظروف الزمانية والمكانية والأحوال وكثيرٌ من الـمفاهيم المجتمعية تتغير ولا تبقى على وتيرةٍ واحدة؛ لأنها مرتبطة بعوامل اقتصادية، وسياسية، وأمنية، وتوعوية، وتعليمية، ومعيشية… إلخ.

 

وهذا معناه أن لكل زمان مقاييسه الخاصة ومفاهيمه العامة القابلة للتغير وللتبدُّل في حياة أفراده.

 

سابعًا: مساعدة الأبناء في الأُسـرة على اختيار الرفقة الصالحة وتجنيبهم رفاق السوء؛ إذ إن التربية الأُسـرية لا يمكن أن تكتمل إذا كان في حياة الأبناء رفقةٌ سيئةٌ يهدمون ما بناه الوالدان، فمعظم الجرائم وتعاطي المخدرات والعنف والانحراف الفكري يقف خلفه رفاق السوء.

 

وهنا كان لا بُد للأبوين أن يدركا أن المنع وحده ليس كافيًا؛ فهناك قاعدةٌ قديمةٌ لا تزال وستظل سارية المفعول وقوية التأثيـر في واقعنا، وهي أن كلَّ ممنوعٍ مرغوبٌ، ولاسيما عند صغار السن الذين لا يُدركون كثيرًا من جوانب وظروف الحياة بعامة.

 

ثامنًا: الحرص على غرس مبدأ تعاون الأسـرة مع أجهزة الأمن المختلفة، والأجهزة الرقابية والضبطية والوقائية الأخرى؛ لأن ذلك من شأنه أن يُسهم كثيرًا في أمن وسلامة المجتمع، ولا سيما أن الأُسـرة بمثابة شُـرطي المجتمع الأول من خلال متابعتها لمدى التزام أبنائها وتطبيقهم للوائح والأنظمة في المجتمع، وتعويدهم على طاعة القوانين واحترامها والامتثال لأوامرها، والتبليغ عن الحوادث والجرائم والمخالفات، والمبادرة إلى تقديم العون والمساعدة للجهات الأمنية عندما تطلبها، والحرص على تقديم المعلومات المفيدة لرجال الأمن ومن في حُكمهم.

 

وهذا يؤكد أن الأمن مسؤوليةٌ تضامنيةٌ يشترك فيها الجميع، وبخاصةٍ أن رجال الأمن ومن في حُكمهم يعملون من أجل أمن وسلامة المجتمع، ومهمة التعاون معهم تُعدُّ واجبًا وطنيًّا، وعلى كل فرد من أفراد المجتمع أن يؤديه، فمن المعروف أن أجهزة الأمن وحدها غيـر قادرةٍ مهما بلغت جاهزيتها على مكافحة الجريمة، ولا بد من تعاون ومؤازرة مؤسسات المجتمع الأخرى وأولها الأسـرة.

 

تاسعًا: إرساء مفهوم احترام النظام بين كل أفراد المجتمع ومختلف طوائفه، والحرص على الالتزام باللوائح والتعليمات في كافة أنشطتنا الحياتية المجتمعية على مستوى قواعد المرور، ولوائح وأنظمة العمل والعمال، وأنظمة السفر والإقامة، وقوانين الحفاظ على البيئة، واحترام حريات الآخرين والحرص على ممتلكاتهم ومصالحهم وسلامتهم انطلاقًا من مبدأ التعاون بين الجميع، وما يتبع ذلك من حفاظ على حقوق الآخرين.

 

عاشـرًا: أن نعلم جميعًا أن كل ما سبق لن يتحقق منه شيء إذا لم نحرص ونجتهد في تحويل كل ما سمعناه من أقوالٍ إلى أعمال، وتطبيق كل ما اقتنعنا به إلى واقع؛ فالتنظير مهمةٌ سهلةٌ وميسورة، ولكنها تظل مجرد كلام يُقال، ولا يُمكن أن يؤتي التنظير ثماره بدون تطبيق وتحويلٍ للقول إلى عمل، قال تعالى: ﴿ وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ ﴾ [التوبة: 105]، وقال سبحانه: ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [النحل: 97].

 

وختامًا، أسأل الله تعالى أن يوفق الجميع لصالح القول، وجميل العمل، وأن يُديم على بلادنا نعمة الإيمان، والأمن والأمان والاستقرار، وأن يرزقنا طاعة الرحمن سبحانه، وأن يكفينا جميعًا من كيد الكائدين، وحقد الحاقدين، واعتداء المعتدين، ومكر الـماكرين، وخيانة الخائنين، وظلم الظالمين.

 

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.


[1] محاضرة تم تقديمها بتاريخ 8 رمضان 1436هـ في ملتقى ومنتديات آل عُمر في بللحمر.