منوعات

سجن الذاكرة في «أسفار النسيان»

«ما أحاول نسيانه يأبى أن ينساني» (ص 119).

«أسفار النسيان» (دار العين، 2022) رواية ملحمية تعيد إنتاج الذكريات الخاصة والعامة، وتحاول إعادة تشكيل صور الأحداث وتدفق الحياة وسريانها ومدى تأثيرها في الذاكرة حتى تلك التي عانت من تشوش رهيب كما حدث في حالة المريض «فهمي حمزة الريدي».

الرواية الضخمة (620 صفحة) تتسم ببناء فني مُحكم، كما لو أن مؤلفها عمرو شعراوي، وهو في الأصل أستاذ للفيزياء في الجامعة الأمريكية في القاهرة، وظف كل خبراته في تشييد هذا الصرح الروائي بمختلف طوابقه، بعنايةٍ وإتقان.

«أعرف قسوة نسيان المألوف، حين تضيع مواطئ الأقدام وتنكمش النفس وتتكور وتنطوي وتضيع منها العلامات» (ص 9).

كانت حالة المريض «فهمي حمزة الريدي» غريبة على الطب آنذاك، حيث أصيب بالعمه البصري وفقدان الذاكرة، فما يراه بعينيه يُترجم لأشكال ضبابية لا يستطيع الربط بينها وبين ما يدور حوله، لكن لم تقف حالته عند هذا الحد، فلم يفقد «فهمي» ذكريات طفولته وشبابه وعلاقته بأخواته وجيرانه وحياته السابقة ككل فحسب، بل فقد أيضًا قدراته المعرفية بما فيها القراءة والكتابة ومعرفة الأرقام.

حاول جاره الطبيب المعالج له أن يساعده على استعادة تلك القدرات ووضع له برنامج تأهيل أشرف عليه بنفسه، كما تفرغ لدراسة حالته. إلا أن «فهمي» كان يتحسن ببطء شديد مخيب للآمال.

«يلتقط فُتات ذكرياته التي بدأت تتشكل ببطء فتتجلى له أحداث حياته مضطربة وغير مُرتبة. تظهر له أطياف أيامه المنسية من وراء حُجُب وأستار ثقيلة، فيعي بعضها وتضيع منه أغلبها، ون حينٍ لآخر يتلفظ بتعليق غريب لا أدري من أين أتى به» (ص 11).

«لكن السُبُل قد تتكشف حين يضيع منا الرجاء» (ص 12).

«لكن في لحظة كاشفة، طلبتُ من «فهمي» أن يكتب ما يرِدُ على ذهنه بشكل تلقائي مستعملًا أسلوب الاسترسال الحُر، فاتضح لي أنه يستطيع كتابة كلمات كانت تستعصى عليه حروفها في السابق، ومع مرور الوقت أصبح بإمكانه تدوين جُملٍ وفقرات ذات معان متكاملة، يُسطِّرها بسلاسة، شريطة أن يستمر في الكتابة بعفوية ودون انقطاع» (ص 12-13).

لكن بدأت الشكوك تطارد الطبيب والإحساس بالتفاؤل يرهقه مع مرور الوقت.

«سألته: «ماذا ستفعل بحياتك؟»، فأجاب: «سأكتب! ما كتبته حتى الآن أعاد لي حياتي. لقد أنقذتني الكتابة من التيه» (ص 134.

وهكذا، بدأ «فهمي» في التدوين في محاولة منه للقبض على خيط كل ما فقده، كتب عن طفولته وطفولة أخواته «سعيد» و«يحيى» و«منيرة» و«سماح» و«كفاية» الذين تفرعوا كل منهم في حياة وطريق مختلف في شتى ربوع القاهرة، واتخذوا مسالك مختلفة في الحياة سواء كانت سياسية أو اجتماعية، يغرق «فهمي» في تفاصيل حياتهم مستدعيًا لحظات دقيقة شكلت ثقوبًا سوداء في ذاكرته وكادت أن تبلعه.

بعد انتهائه من التدوين ومرور ما يقارب العام، ذهب «فهمي» إلى منزل الطبيب الذي كان قد تفرغ لحالات أخرى لدراستها، وهناك أفصح «فهمي» عن إحساس دفين يزعجه، كان يشعر أنه سجل دقائق حياة شخص يشبهه لكنه غريب عنه، في النهاية سلمه كل دفاتره وأوراقه، وقال إن هذه الذكريات لا تخصه.

«اليوم، وبعد سنواتٍ عديدة، رجعتُ إلى منزلي بعد أن شيّعنا جثمان فهمي الريدي إلى مأواه الأخير، بحثتُ عن دفاتره التي دوَّن فيها مذكراته، فوجدتها وسط ملفاتي القديمة. أمضيتُ ليلتي متفحصًا الصفحات التي خطّها بدأبٍ حاز على إعجابنا جميعًا» (ص 15).

«الآن وبعد أن رحل عن عالمنا، ها هو يطل علينا من بين كلماته ليحكي ما حاول لملمته من نُثار أيامه» (ص 15).

إنه يقودنا إلى عوالم «فهمي» الخفية، لنعرف أن هذا المقاتل هو أيضًا عاشق مهزوم، وعازف بيانو، ومغنٍ. «أشعر بأنني لا أتعامل هنا مع شخصٍ واحد بل مع كيانات متعددة، فهناك «فهمي» السليم وهناك «فهمي» المهان وهناك «فهمي» الذي اختار المتاهة ولم يرجع منها» (ص 397).

يحاول الطبيب/الراوي إعادة قراءة الوقائع التي سردها «فهمي» في دفاتره «وقررت أن أتحرى صحة تلك الأحداث، محاولًا التأكد من حقيقة ما يسترجعه من تفاصيل» (ص 399).

ليس خافيًا مدى اهتمام عمرو شعراوي بأن يجعل حكاية المريض «فهمي» متوازية مع أحداثٍ جسام عاشتها مصر؛ إذ يقف عند هزيمة يونيو 1967، ونصر أكتوبر 1973، وأحداث 18 و19 يناير 1977، ويختم الرحلة بأجواء زيارة الرئيس أنور السادات لإسرائيل في 19 نوفمبر 1977، وتواكب الرواية تفاصيل عصور مضت بما لها وما عليها.

السياسة حاضرة بقوة، ويدعمها الإعلام والفن والثقافة والوجدان الشعبي الذي يعيش حالة حشدٍ وتعبئة، فتتردد أغاني عبدالحليم حافظ وأم كلثوم ومحمد حمام، مع تطورات سياسية هزت مصر. تزخر الرواية بمقاطع من الأغاني والألحان، المركّبة منها والبسيطة، الشرقية والغربية، القديمة والمعاصرة، كتلك التي تذكّر بالحُبِّ والحنين، بالسياسة والحرب، بالعاصفة وتقلباتها، أو تلك الّتي تذكّرنا بالغياب والزّوال والانهيار.

«أسمعُ صوتًا خافتًا لمذياع بعيد، «دع سمائي فسمائي مُحرقة.. دع قناتي فمياهي مُغرقة». خالي يشمِّر كُمَّ القميص الأبيض الذي يرتديه، موضحًا أن الحال من بعضه، حيث ينشغل موظفو شركته من أعضاء الاتحاد الاشتراكي في تنظيم اجتماعات دورية لإرشاد العاملين إلى كيفية المساهمة في المجهود الحربي لمواجهة تحديات هذه المرحلة العصيبة» (ص 36).

إن «فهمي» في دفاتره «يكتب عن الهزيمة كأنها كابوس يكتم أنفاسه ولا يمكنه الاستيقاظ منه، فيصف كيف تحولت الثقة المطلقة في النصر المُبين إلى هزيمة مروعة. يكتب عمن ظهر بيننا مدعيًا أن ما أصابنا هو مجرد نكسة، أو من يؤكد أننا خسرنا معركة لكن لم نخسر حربًا!» (ص 134).

وهنا نتوه بين دروب خيال «فهمي» والحقيقة التي سارت في طريق متوازٍ مع حكاياته، حكاية «سعيد» ضابط الجيش و«يحيى» المتخبط في آرائه السياسية الشائكة والحياة الاجتماعية لأخواته البنات والأخت التي تزوجت الثوري البوهيمي على غير رغبة الأسرة، قصص عن أبيه الشارد وحُبِّ أمه المرضي له ومغفرتها كل ما عانته معه في حياتها.

نقرأ في دفاتر «فهمي»:

«يا له من إحساس موحش! أعيش في كل لحظة هذا الرعب القاتل، إن لم أكتبْ كل ما يلوح في خاطري، ستنمحي فترات غالية من حياتي ولن أتمكن من استعادتها، وستزول في الوقت نفسه لحظات عصيبة أتمنى نسيانها وأتوق إلى طمسها» (ص 20).

«خبط (فهمي الرِّيدي) كفًّا بكفٍّ وهبَّ واقفًا. رفع ذراعه ولوَّح بيده ثم قال: «هل تعرف أنَّ الحقيقة ما هي إلا إعادة تركيب الواقع في الأذهان؟ ولذلك ففيها ترجيحٌ لكفَّة الماضي، وأنا للأسف ضاع مني ذلك الماضي». سألتُه عمَّا يقصد بكلامه، فشرد بعيدًا ثم ابتسم ابتسامةً واهنةً وقال: «إن كانتِ الحقيقة لا وجودَ لها إلا فيما وقع فعلًا، فما جدواها؟» (ص 400).

بصفاء نادر وصراحةٍ مطلقة، يروي «فهمي» حقيقة ما جرى له وللوطن عبر أكثر من عقدين من الزمان، ويكشف المستور عن حياته الخاصة وحياة عائلته، بل وأهل بلده، فيصبح ما دوّنه مدعاة للشك؛ لأن جرعة الصدق في كلامه أكبر من أن تستوعبها العقول.

«هل حارب فهمي الريدي مِن أجل مَنْ جلسوا خلف مكاتبهم يتحيَّنون فرصة الاغتنام؟ أم أنه قاتَلَ لكي يتسلَّط حاكمٌ على العباد؟ أم حارَب من أجل طغيانِ تأويلٍ قديم؟ فهمي لم تغطِّ النياشينُ صدرَه ولا علا صيتُه بين أقرانه، لكنَّه عاد سالمًا لينزوي في وظيفة حكوميَّة متواضعة. يقول إنه تحمل راضيًا ما ألقته الأقدار على عاتقه. يسألُنِي عن مصير البلد وأهله إن لم يقاوم هو ومَنْ معه ولم يصدُّوا عدوًّا عاتيًا.

أربكني سؤالُه. فأهلُ أيِّ بلدٍ يقصد؟ أيتحدَّث عمَّن أفسدوا في الأرض، أم عن الذين هاجروا من أجلِ حياةٍ مريحة، أم الذين عسَّرُوا أحوالَ العباد، أم الذين اشتهوا حلاوة التحريم، أم الذين سكتُوا ورَضُوا بقليله؟

يقول إنه حارب من أجل البسطاء من أهل هذا البلد. لكننا لم نَعُد نرى من هؤلاء البسطاء إلا قلَّةً تاهت وسط جموع المُتناحِرين، ومَنْ بقي منهم لا يشعرُ بأنه ينتمي إلى هذا الوطن أصلًا. باللهِ عليك يا فهمي مَنْ تقصد بالبُسطاء؟ هل هم من هتفوا في الميدان مطالبين بأبسط الحقوق، أم مَنْ هَوَوْا بالهِرَّاوات فوق الرؤوس؟» (395-396).

ذاكرة «فهمي» أنتجت وطنًا أقسى من المنفى، وغرامًا سقط من حافة الوقت، لكن وثقت الحكاية لمن يرغب في فهم وقائع ما جرى في زمنٍ ما زال يُلقي بظلاله على أيامنا.