منوعات

شذرات من مناقب العفيفة الطاهرة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها (2)

شذرات من مناقب العفيفة الطاهرة

أم المؤمنين عائشة رضِي الله عنها (2)

 

تحدثنا في الجزء الأول من هذا الموضوع عن:

تعريف بأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، كما تحدثنا عن زواجها ومدى حب النبي لها، كما عرجنا على مدى عدل النبي صلى الله عليه وسلم بين زوجاته، وبعد ذلك تناولنا شيئًا يسيرًا من فضلها وعلمها، وأخيرًا تحدثنا عن فضلها في القرآن الكريم، رضي الله عنها وأرضاها، ولعن الله من آذاها.

 

8- دعاءُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها:

عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنه قالت: “لَمَّا رأَيْتُ مِن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم طِيبَ نفسٍ، قُلْتُ: يا رسولَ اللهِ، ادعُ اللهَ لي، فقال: ((اللَّهمَّ اغفِرْ لِعائشةَ ما تقدَّم مِن ذنبِها وما تأخَّر، ما أسرَّتْ وما أعلَنَتْ)) فضحِكَتْ عائشةُ حتَّى سقَط رأسُها في حِجْرِها مِن الضَّحِكِ، قال لها رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((أيسُرُّكِ دعائي؟))، فقالت: وما لي لا يسُرُّني دعاؤُكَ؟ فقال صلى الله عليه وسلم: ((واللهِ إنَّها لَدعائي لِأُمَّتي في كلِّ صلاةٍ))”؛ (صحيح ابن حبان).

 

9- حياء أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها:

إن المرأة المؤمنة بفطرتها النقية تستحي من أي رجل حتى لو كان زوجها، فما ظنك بمن لا تستحي من الأحياء فحسب؛ بل تستحي من الأموات؟!

 

عن عروة بن الزبير رضي الله عنه أن أم المؤمنين عائِشةَ قالت: “كنتُ أدخُلُ بَيتي الذي دُفِنَ فيه رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وأَبي، فأضَعُ ثَوْبي، وأقولُ: إنَّما هو زَوْجي وأبي، فلمَّا دُفِنَ عُمَرُ معهم، فواللهِ ما دخَلتُهُ إلَّا وأنا مَشدودةٌ علَيَّ ثيابي؛ حَياءً مِن عُمَرَ!”؛ (تخريج المسند، صحيح على شرط الشيخين).

 

عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يُبعثُ النَّاسُ يومَ القيامةِ حُفاةً عُراةً غُرْلًا))، فقالت عائشةُ: فَكيفَ بالعوْراتِ؟ قالَ: ((﴿ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ﴾ [عبس: 37]))؛ (صحيح النسائي).

 

10- عبادة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها:

عن عروة بن الزبير رضي الله عنه أنَّ عائشةَ رضيَ اللَّهُ عنها كانت تَصومُ الدَّهرَ، في السَّفَر، والحضَرِ”؛ (نخب الأفكار بإسناد صحيح).

 

*المعنى: أنها رضي الله عنها كانت تصوم غيرَ الأيام المنهي عنها؛ كالعيدين، وأيام التشريق، والحَيْض.

 

وروى ابن أبي الدنيا بإسناده، عن القاسم بن محمد بن أبي بكر رضي الله عنهم، قال: “كنت غدوت يومًا فإذا عائشة قائمة تسبح- يعني: تصلي- وتبكي، وتقرأ: ﴿ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ ﴾ [الطور: 27] وتدعو وتبكي، وترددها، فقمت حتى مللت القيام، فذهبت إلى السوق لحاجتي، ثم رجعت فإذا هي قائمة كما هي، تصلي وتبكي”؛ (فتح الباري).

 

11- زهد أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها:

عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: “ما شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مِن خُبْزِ شَعِيرٍ يَومَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، حتَّى قُبِضَ رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم”؛ (صحيح مسلم).

 

عن عطاء أنَّ مُعاويةَ بعَثَ إلى عائشةَ بقِلادةٍ بمِئةِ ألفٍ، فقسَمَتْها بيْنَ أُمَّهاتِ المؤمنينَ.

 

عن أُمِّ ذَرَّةَ، قالتْ: بعَثَ ابنُ الزُّبَيرِ إلى عائشةَ بمالٍ في غِرارَتَينِ، يَكونُ مِئةَ ألْفٍ، فدعَتْ بطَبقٍ، فجعَلَتْ تَقسِمُ في النَّاسِ. فلمَّا أمسَتْ، قالت: هاتي يا جاريةُ فُطوري. فقالتْ أُمُّ ذَرَّةَ: يا أُمَّ المؤمنينَ، أمَا استطَعتِ أنْ تَشتري لنا لَحمًا بدِرهَمٍ؟ قالتْ: لا تُعنِّفيني، لو أذكَرْتِني لفَعَلتُ”؛ (تخريج سير أعلام النبلاء، رجاله ثقات).

 

12- مهارة أم المؤمنين عائشة في الطب:

عن الشعبي قال: قيل لعائشة: يا أم المؤمنين، هذا القرآن تلقيته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك الحلال والحرام، وهذا الشعر والنسب والأخبار سمعتها من أبيك وغيره، فما بال الطب؟ قالت: كانت الوفود تأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يزال الرجل يشكو علة، فيسأله عن دوائها، فيخبره بذلك؛ فحفظت ما كان يصفه لهم وفهمته”؛ (سير أعلام النبلاء).

 

13- جهاد أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها:

عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: “لَمَّا كانَ يَوْمُ أُحُدٍ، انْهَزَمَ النَّاسُ عَنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قالَ: وَلقَدْ رَأَيْتُ عَائِشَةَ بنْتَ أَبِي بَكْرٍ، وَأُمَّ سُلَيْمٍ وإنَّهُما لَمُشَمِّرَتَانِ، أَرَى خَدَمَ سُوقِهِما تَنْقُزَانِ القِرَبَ، وَقالَ غَيْرُهُ: تَنْقُلَانِ القِرَبَ علَى مُتُونِهِمَا، ثُمَّ تُفْرِغَانِهِ في أَفْوَاهِ القَوْمِ، ثُمَّ تَرْجِعَانِ فَتَمْلَآنِهَا، ثُمَّ تَجِيئَانِ فَتُفْرِغَانِهَا في أَفْوَاهِ القَوْمِ”؛ (صحيح البخاري).

 

عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: “خرَجْتُ يومَ الخَندقِ أقفو أثَرَ النَّاسِ… إلى أن قالت: فقُمْتُ فاقتحَمْتُ حديقةً فإذا فيها نفَرٌ مِن المُسلِمينَ فيهم عُمَرُ بنُ الخطَّابِ رضِي اللهُ عنه، فقال عُمَرُ: وَيْحَكِ ما جاء بكِ؟! لَعَمْرِي واللهِ إنَّكِ لَجريئةٌ!”؛ (تخريج صحيح ابن حبان بإسناد حسن).

 

14- بعض المواقف من حياة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها:

1- عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها أنها ذكرت عند رجل فسبها الطاهرة الذكية فقيل له: أليست بأمك؟ قال: ما هي لي بأم، فبلغها ذلك فقالت: صدق، أنا أم المؤمنين، فأما الكافرون فلست لهم بأم؛ (الشريعة للآجري).

 

2- لم يكن لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في بداية الأمر خادم، ثمَّ اشترت جارية اسمها بَرِيرة وأعتقتها، واشترطت أن يكون ولاؤها لها، ولما ذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم قال: ((اشتريها وأعتِقيها؛ فإنَّ الولاءَ لمن أعتق))؛ (صحيح النسائي).

 

3- كانت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تغار على النبي صلى الله عليه وسلم، ولما سألها رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا: ((ما لَكِ يا عَائِشَةُ؟ أَغِرْتِ؟)) فَقُلتُ: وَما لي لا يَغَارُ مِثْلِي علَى مِثْلِكَ؟…))؛ (صحيح مسلم).

 

4- بلغ من حب النبي صلى الله عليه وسلم لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وخوفه عليها أنه كان يأمرها أن تسترقي من العين؛ عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: “كانَ رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُنِي أَنْ أَسْتَرْقِيَ مِنَ العَيْنِ”؛ (صحيح مسلم).

 

5- الواجب على المسلم الإمساك عن المفاضلة بين مناقب الصحابة؛ فكلهم على خير، ويكفيهم شرف صدقهم في صحبتهم للنبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك الإمساك عن الخوض فيما شجر بين الصحابة؛ فهم بين مجتهد مُصيب له أجران، وآخر غير مصيب له أجر.

 

كانت علاقة عَائِشَة رضي الله عنها بعليٍّ رضي الله عنه قبل وفاة النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم علاقة حميمة، ثمَّ بعد وفاة النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم حدثت فتنة الجمل، واختلف كل من عَائِشَة وعلي رضي الله عنهما في الاجتهاد، وحصل ما حصل، ولكن بالرغم من ذلك، لم تكن العلاقة بينهما علاقة عداء وجفاء، بل إن عَائِشَة رضي الله عنها لما أرادت الخروج من البصرة- بعد انتهاء فتنة الجمل- بعث إليها عليٌّ رضي الله عنه بكل ما ينبغي من مركب وزاد ومتاع وغير ذلك، وأذن لمن نجا ممن جاء في الجيش معها أن يرجع إلا أن يحب المقام، واختار لها أربعين امرأة من نساء أهل البصرة المعروفات، وسيَّر معها أخاها محمد بن أبي بكر، فلما كان اليوم الذي ارتحلت فيه جاء عليٌّ فوقف على الباب وحضر الناس وخرجت من الدار في الهودج فودعت الناس ودعت لهم، وقالت: «يَا بَنِيَّ لا يَعْتِبْ بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ، إِنَّهُ وَاللَّهِ مَا كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَلِيٍّ فِي الْقِدَمِ إِلا مَا يَكُونُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَأَحْمَائِهَا، وَإِنَّهُ عَلَى مَعْتَبَتِي لَمِنَ الأخْيَارِ»، فقال علي رضي الله عنه: «صَدَقَتْ وَاللَّهِ مَا كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهَا إِلا ذَاكَ، وَإِنَّهَا لَزَوْجَةُ نَبِيِّكُمْ صلى الله عليه وسلم فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ»، ثم سار عليٌّ معها مودعًا ومشيعًا أميالًا؛ (المنتظم في تاريخ الملوك والأمم لابن الجوزي).

 

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في (منهاج السنة): “فإنَّ عائشة لم تقاتِل، ولم تخرج لقتال، وإنما خرجتْ لقصد الإصلاح بين المسلمين، وظنَّتْ أنَّ في خروجها مصلحةً للمسلمين، ثم تبيَّن لها فيما بعد أنَّ ترك الخروج كان أولى، فكانتْ إذا ذكرتْ خروجَها تبكي حتى تبل خمارها، وهكذا عامة السابقين ندموا على ما دخلوا فيه من القتال، فندم طلحة، والزبير، وعلي، رضي الله عنهم أجمعين، ولم يكن “يوم الجمل” لهؤلاء قصد في الاقتتال، ولكن وقع الاقتتال بغير اختيارهم”؛ ا هـ.

 

6- إن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عرَفت لله تعالى فضله عليها حين برَّأها من فوق سبع سماوات، وذلك بقرآن يُتلى ويُتعبد بتلاوته إلى يوم القيامة.

 

عن عروة بن الزبير وسعيد بن المسيب وعلقمة بن وقاص وعبيدالله بن عبدالله أن أم المؤمنين عَائِشَةَ رضي الله عنها، “حِينَ قالَ لَهَا أهْلُ الإفْكِ ما قالوا، وكُلٌّ حدَّثَني طَائِفَةً مِنَ الحَديثِ، قالَتْ: فَاضْطَجَعْتُ علَى فِرَاشِي وأَنَا حِينَئِذٍ أعْلَمُ أنِّي بَرِيئَةٌ، وأنَّ اللَّهَ يُبَرِّئُنِي، ولَكِنِّي واللَّهِ ما كُنْتُ أظُنُّ أنَّ اللَّهَ يُنْزِلُ في شَأْنِي وحْيًا يُتْلَى، ولَشَأْنِي في نَفْسِي كانَ أحْقَرَ مِن أنْ يَتَكَلَّمَ اللَّهُ فِيَّ بأَمْرٍ يُتْلَى، وأَنْزَلَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ ﴾ [النور: 11] العَشْرَ الآيَاتِ كُلَّهَا”؛ (صحيح البخاري).

 

15- مرض أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ووفاتها:

مرضتْ أُمُّ المؤمنين عائشة في آخِرِ حياتها مرضًا ألْزمها الفراشَ، وأحاطها الصحابةُ بعنايتهم واهتمامهم بصحَّتِها، فكان يدخل عليها بعضُ الصحابة الذين هم مِن قرابتها، مثل عبدالله بن عباس، فيُثني عليها؛ لتخفيفِ وطأة المرض عنها، ولم تكن تحبُّ أن تسمع مَن يُثني عليها، قالت رضي الله عنها: “أثنَى عليَّ عبدالله بن عباس، ولم أكن أُحبُّ أن أسمع أحدًا اليوم يُثني علي، لوددتُ أنِّي كنت نسيًا منسيًّا”؛ (الطبقات لابن سعد).

 

أما عن وفاة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها:

توفيت رضي الله عنها سنة سبع وخمسين، وقيل: سنة ثمان وخمسين ولها ثلاث وستون سنة وأشهر؛ (مسند الإمام أحمد).

تُوفيت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ليلة الثلاثاء، لسبع عشرة ليلة مضت من رمضان.

صلى أبو هريرة رضي الله عنه على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بعد الوِتْر، ودُفنت بالبقيع.

 

أخيرًا أقول:

إنَّ أمَّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها شمسٌ لا يمكن حجب نورها، فهي رضي الله عنها موجودة في كل بيت، وعلى كل لسان، وفي كل عصر ومصر، هي ملء السمع والبصر، وأحمق من تسول له نفسُه أنه يستطيع أن يحجب شيئًا من أنوارها، ولقد أثبتت الأيام والأحداث أنه كلما زاد إرجاف المرجفين في حق أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، زاد الناس لها حبًّا، واستزادوا من فضائلها ومناقبها، وعلا مقامها، ﴿ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [المنافقون: 8].

 

رحمَ اللهُ تعالى الصِّدِّيقَةَ بِنْت الصِّدِّيقِ، حَبِيبَةَ حَبِيبِ اللَّهِ، الْمُبَرَّأَةَ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ، أمَّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها رحمةً واسعةً، وجزاها عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.