منوعات

عن الترجمة: ترجمة المتعذر ترجمته


المزيد من المشاركات

الكاتب بول ريكور
ترجمة عبد الوهاب البراهمي

( من أجل “جان قر ايش”)*

  تتعلّق مساهمتي بالمفارقة التي هي في الآن نفسه الأصل في الترجمة وأثرا لها، يعني خاصيّة رسالة شفوية للغة، في دلالةِ ما يتعذّر ترجمته إلى لغة أخرى.

1- يوجد أمر أوّل غير قابل للترجمة، ما يتعذّر ترجمته منذ البدء، هو تعدّد اللغات وهو ما يستحسن تسميته منذ الآن التنوّع، واختلاف اللغات، تماما كما سمّاها فون هوبولدت von Humboldt، الذي يقترح فكرة لاتجانس جذريّ يجب أن يجعل التــرجمة مستحيلة. يلامس هذا التنوّع كل المستويات الإجرائية للغة: التقطيع الصوتي والتمفصلي كأساس للأنساق الصوتية؛ والتقطيع التركيبي يفترض اللغات، لا كلمةَ كلمة، بل من نسق تركيبي إلى آخر، والدلالات الشفوية داخل معجمية متمثّلة في شبكة اختلافات ومرادفات؛ والتقطيع التركيبي الملامس مثلا للأنساق الشفوية ووضع حدث في الزمن أو أيضا أنماط التسلسل والتعاقب. ليس هذا كل شيء: ليست اللغات مختلفة فحسب بطريقتها في تجزئة الواقع بل أيضا في إعادة بناءه على صعيد الخطاب، ويلاحظ بنفينست في هذا الصدد معقّبا على سوسير، بأنّ الوحدة اللغوية الأولى الدّالة هي الجملة وليست الكلمة التي ذَكّرنا بطابعها التقابلي. بيد أن الجملة تنظّم بطريقة تأليفية بين مخاطب، ومحاور ورسالة تُريد أن تدلّ على شيء وعلى مَرْجَع، بمعنى ما نتحدّث فيه، وما نتحدّث عنه. “والرسالة”: ترجمة ما لايقبل الترجمة ( يقول أحدهم شيئا لشخص آخر وفق قواعد التمعين de signifiance). في هذا المستوى ينكشف المتتعذّر ترجمة مثيرا للقلق مرة أخرى؛ ليس تجزئة الواقع فحسب، بل علاقة المعنى بالمرجع: ما نقوله في علاقته بما نقول عنه؛ كلّ جمل العالم تطفو بين البشر مثل فراشات مراوغة. وليس هذا كلّ شيء، وليس حتّى أكثر ما يُخشى منه: فالجمل هي خطابات قصيرة مأخوذة عن خطابات أطول هي النصوص. يعرف المترجمون هذا جيّدا: وتشكّل النصوص بدورها أجزاء لمجموع ثقافي تعبّر من خلاله رؤى للعالم مختلفة، يمكن لنا بالمناسبة أن تتواجه داخل نفس النسق الأوّلي للتقطيع الفونولوجي أو الصوتي، والمعجمي والتركيبي، إلى حدّ يجعل ما نسمّيه الثقافة القومية أو الجماعاتية شبكةً من الرؤى للعالم في تنافس خفيّ أو مفتوح ؛ لِتفكّر فحسب في الغرب وفي علاقاته المتعاقبة، الإغريقية واللاتينية، وفي مراحل فهمه الذاتي التنافسي، من العصر الوسيط إلى عصر النهضة وإلى الإصلاح، والأنوار، وإلى الرومانطيقية. تقودني هذه الاعتبارات إلى القول بأنّ مهمّة المترجم لا تمرّ من الكلمة إلى الجملة، إلى النصّ، إلى المجموع الثقافي، بل على العكس: يعيد المترجم النزول من النص إلى الجملة وإلى الكلمة منغرسا بواسطة قراءات موسّعة لفكر ثقافة.  و يتعلّق الفعل الأخير، إن جاز القول، أي القرار الأخير، وضع مسرد مصطلحات على صعيد الكلمات؛ فاختيار هذا المَسرد هو آخر اختبار حيث يتبلور على نحو دقيق ما يجب أن يكون استحالة ترجمة.

2- كنت أتحدث عمّا لا يقبل الترجمة أوليّا. وحتّى ندرك ما لايقبل الترجمة نهائيا، ذاك الذي تنتجه الترجمة، لابد من أن نقول كيف تشتغل الترجمة. ذلك أن الترجمة توجد. لقد ترجمنا دائما: لقد كان هناك دوما تجّارا، ومسافرين وسفراء وجواسيس، لتلبية الحاجة إلى توسيع المبادلات الإنسانية إلى ما بعد الجماعة اللغوية التي هي إحدى المكوّنات الأساسية للانسجام الاجتماعي وهوية المجموعة. لقد أدرك أناس ثقافة ما أنّ هناك غرباء لهم آداب أخرى ولغات أخرى. وأنّ الغريب كان دوما مثيرا للقلق: توجد إذن طرق أخرى للعيش غير طرقنا؟ لقد كانت الترجمة دوما إجابة جزئية لهذه ” التجربة للغريب”. إنّها تفترض أولا حبّ اطّلاع – يتساءل عقلاني القرن 18م: كيف يمكن أن أكون فارسيّا؟ نحن نعرف مفارقات مونتسكيو: تخيّلوا القراءة التي يقوم بها الفارسي لآداب الإنسان الغربيّ، الإغريقي- اللاتيني، والمسيحيّ، المؤمن بالخرافة والعقلانيّ. إنّ الفضول تجاه الغريب هو ما يطعّم، ما يسمّيه أنطوان بارمان في تجربة الغريب، الرغبة في الترجمة. كيف يفعل المترجم؟ استعمل قصدا عبارة ” فعل”. ذلك أنه لا يتعلّق الأمر بصناعة، تبحث لها عن نظرية، كون المترجم يتجاوز عائقا – بل الاعتراض النظري- بلاقابلية مبدئية لترجمة لغة إلى أخرى. أذكّر، في مقالة سابقة، بمحاولات إعطاء حلّ نظريّ لهذه المعضلة بين استحالةٍ على صعيد المبدأ وممارسة الترجمة: إمّا بالرجوع إلى لغة أصليّة، أو بناء لغة اصطناعية، عثر امبرتو إيكو على مغامرة البحث عنها في الثقافة الأوروبية. لا أستعيد الحجج التي يتعلل بها فشل هاتين المحاولتين: اعتباطيةُ إعادة بناء اللغة الأصليّة التي تبدو في نهاية الأمر غير موجودة. ربّما هو نفس الاستيهام الخالص: استيهام الأصل الذي أصبح تاريخيا، والرفض اليائس للوضع البشري الواقعي، الذي هو وضع الأكثرية على جميع مستويات الوجود، كثرة، يعدّ التنوّع في اللغات مظهرها الأكثر إثارة للحيرة: لماذا كثيرا من اللغات؟ الجواب: هكذا هو الحال. نحن، بموجب التكوين لا بفعل صدفة قد تكون خطأ، ” بعد بابل” après Babel”، حسب عنوان ستاينر Steiner. أما فيما يخصّ اللغة الكاملة بوصفها لغة اصطناعية، ففضلا عن واقع عجز أيّ كان عن كتابتها، بسبب عدم الاستجابة لشرط ما قبلي هو التعداد الشامل للأفكار البسيطة ولإجراء كوني متفرّد للاشتقاق، فإنّ المسافة بين اللغة الكونية المفترضة واللغات الطبيعيّة مع خاصياتها وغرائبها، تبدو غير قابلة للتجاوز. ينضاف إلى هذه المسافة الفاصلة الطريقة المختلفة التي تتناول بها مختلفُ اللغات العلاقةَ بين المعنى والمرجع، في العلاقة بين القول والواقع، فالقول شيء آخر غير الواقع، والممكن واللاواقعي، الطوباوي بمعنى السرّي، والمتعذر وصفه وباختصار، الآخر للتواصلي. فنقاش كلّ لغة مع السّريّ والمخفيّ واللغز، والمتعذّر وصفه هو بامتياز اللاتواصلي l’ incommunicable ، والمتعذّر ترجمته أوليّا الأكثر ترسّخا.

كيف يفعلون إذن؟

لقد سعيت في محاولتي السابقة، إلى مخرج عمليّ، بالاستعاضة عن – البديل المُشلّ – القابل للترجمة في مقابل غير القابل للترجمة – والبديل وفاء مقابل الخيانة، للاعتراف بأنّ ممارسة الترجمة تظلّ عملية لا تخلو من الخطر، تبحث دوما عن نظريتها. أودّ أن أعود إلى هذا الاعتراف، بأن أؤكّد على ما أسمّيه غير القابل للترجمة نهائيا الذي تكشفه بل تولّده الترجمة. إنّ معضلة وفاء/ خيانة تطرح نفسها كمعضلة عملية لأنّه لا يوجد معيارا مطلقا لما سيكون الترجمة الجيّدة. سيكون هذا المعيار المطلق هو ذات المعنى، المكتوب في مكان ما، فوق وبين النص الأصلي والنص الذي نصل إليه. وسيكون هذا النص الثالث حاملا لمعنى متطابق يفترض أنّه ينتقل من الأول إلى الثاني. من هنا كانت المفارقة، المتخفيّة في المعضلة العملية بين الوفاء والخيانة: لا يمكن لترجمة حسنة أن ترمي إلاّ إلى تكافؤ مفترض غير مؤسّس في هويّة معنى قابل للبرهنة، تكافؤ دون هويّة. يمكننا إذن ربط هذه قرينة التكافؤ دون هويّة، بعمل الترجمة، الذي يتجلّى بوضوح أكثر في فعل إعادة الترجمة الذي نلاحظه على مستوى النصوص الكبرى للإنسانية، وبالخصوص تلك التي تتخطّى حاجز تفاوت أنظمة التقطيع وإعادة التركيب الجملي phrastique والنصّي الذي أشرنا إليه سابقا، مثلا بين العبرية والإغريقية والصينية. لكننا لا نكفّ بالمرّة عن إعادة ترجمة داخل نفس المنطقة الثقافية ذاتها، مثلما نراه مع التوراة وهوميروس وشكسبير ودوستويفسكي. هذا العمل مطمئن للقارئ، لأنّه يسمح له بالنفاذ إلى مؤلّفات ثقافة أجنبية لا يتكلّم لغتها. ولكن ماذا بشأن المترجم ومعضلته وفاء / خيانة؟ إنّ اكبر الراغبين في الترجمة الذين هم الرومنتيكيون اللألمان، الذين يتحدّث أنطوان بارمان عن مغامرتهم في كتاب محنة الغريب، قد ضاعفوا نُسخ هذه المعضلة العملية التي يكشفون عنها في صيغ من قبيل “أن نقود القارئ نحو الكاتب”، ” أن نقود الكاتب نحو القارئ”. وما يبعث على الارتياح عندهم هو الاضطراب في خدمة سيدين، الغريب في غربته، والقارئ في رغبته في التملّك. نساهم في هذا الارتياح باقتراح التخلّي عن حلم الترجمة الكاملة بالاعتراف بالاختلاف غير القابل للتجاوز بين الخاص والغريب. وهنا أودّ أن أرتكز على هذا الاعتراف. إنّ ما كان يفترض رغم كل شيء، وفق صيغة في الظاهر متواضعة للتكافؤ دون هويّة، هو وجود مسبق لهذا المعنى يُفترض من الترجمة أن ” تردّه” rendre”، أو ترجعه كما نقول، مع فكرة غامضة عن ” استرداد restitution”. ولا يمكن لهذا التكافؤ إلاّ أن يكون موضوع بحث، مشتغل عليه ومفترض. هذا التخمين هو الذي يجب أن يوضع موضع تساؤل. إنّه مقبولة نسبيا داخل ميدان ثقافي واسع حيث تكون الهويات الجماعية، بما في ذلك اللغوية، هي بذاتها نتاج تبادل طويل المدى، مثل هو شان في الميدان الهند- أوروبي، ومن باب أولى في المجموعات الجزئية للتجانس مثل لغات شمال إيطاليا، واللغات الجرمانية والسلافية slaves، وفي العلاقات الثنائية مثلما يكون بين لغة لاتينية ولغة جرمانية، ولنقل أنجلو-ساكسونية. إنّ قرينة التكافؤ يبدو إذن مقبولة. وبالفعل، فالقرابة الثقافية تخفي الطبيعة الحقيقيّة للتكافؤ، التي هي بالأحرى ناتجة عن الترجمة أكثر من كونها مفترضة منها. أعود في هذا إلى مؤلّف ليس مرتبطا مباشرة بالترجمة، لكنّه يسلّط الضوء على ظاهرة أحاول وصفها: إنتاج التكافؤ بواسطة الترجمة. يتعلّق الأمر بكتاب مارسال ديتيان Marcel Détienne (هيلينستي ) بعنوان مقارنة ما يتعذّر مقارنته Comparer l ‘incomparable.(1) الكتاب موجّه ضدّ شعار:”لا يمكن مقارنة ما يتعذّر مقارنته” (ً45 مقطع…) يتكلّم الكتاب إذن عن ” المقارناتية البنّاءة”« comparatisme constructif». وحيث يتكلّم أنطوان بارمان عن ” تجربة الغريب” « l ‘épreuve de l’ étranger »، يتكلّم ديتيان عن ” صدمة مالا يقبل المقارنة” « choc de l ‘incomparable ».. فهو يلاحظ أن ما لايقبل المقارنة أو ما تتعذّر مقارنته، يجعلنا نواجه”غرابة الحركات الأولى والبدايات الأصلية أو الأوليّة « l ‘ étrangeté des premiers gestes et des commencements initiaux” (ص48 ). فلنطبّق هذه الصيغة ” بناء مجموعة ممّا يقبل المقارنة”. لقد وجدت مثالا تطبيق في التأويل الذي يقدّمه باحث فرنسي لامع في الشؤون الصينية sinologue فرانسوا جيليان.، للعلاقة بين الصين القديمة والإغريق القديم والكلاسيكي. وكانت أطروحته،والتي لا أناقشها، لكن سأستخدمها كفرضية عمل هو أنّ الصينيّ هو الآخر المطلق للإغريق- وأنّ معرفة جوانيّة l’interieurالصينيّ تساوي تفكيكا déconstruction من خارج، من الخارج، للتفكير والتكلّم الإغريقيّ. الغرابة مطلقة من ناحيتنا، بالنسبة إلينا نحن الذين نفكّر ونتكلّم إغريقيّا، سواء بالألمانية أو في لغة لاتينية. تدفع الأطروحة إلى الأقصى وهو أن الصينيّ والإغريقيّ يتميّزان عبر “طيّة” “pli” أولية أو أصليّة في المفكّر فيه أو القابل للاختبار أوالمعيش le pensable et l ‘ éprouvable، طيّة لا يمكن أن نصعد إلى ما بعدها. في آخر كتابه إذن، وعنوانه في الزمان (2)، يؤكّد جوليان على أنه ليس للصينيّ أزمان فعلية لأنّه لا يملك مفهوم الزمن الذي صاغه أرسطو في كتاب الطبيعيات 4، والذي أعاد بناءه كانط في “الاستيتيقا المتعالية أو الترنسندنتالية”، وجعله هيجل كونياّ من خلال أفكار السلبيّ.. كل الكتاب كان على صيغة: ” لا يوجد…..، لا يوجد….لكن يوجد….”. أطرح إذن السؤال: كيف نتكلّم (الفرنسية ) عمّا يوجد بالصينية؟ إلاّ أنّ جوليان لا يستخدم أيّ كلمة صينية في كتابه ( باستثناء وينغ يانغ yin-yang !) ؛ يتكلّم فرنسية، وبالمناسبة بلغة جميلة، عمّا يوجد هنا محلّ الزمان، بمعنى الفصول والمناسبات، والجذور والأوراق والينابيع والتيارات. وهو يبني بفعله، أشياء تقبل المقارنة بينها. يَبْنِيها، كما قلت سابقا بأنّنا نفعل ونحن نترجم: من أعلى إلى أسفل، من الحدْس الشامل المتصل باختلاف الطيّة pli ” مرورا بالأعمال، الكلاسيكيات الصينية، ونزولا نحو الكلمات: بناء مايقبل المقارنة تعبّر عن نفسها في النهاية في بناء معجم. وماذا نجد من جهة كلمات لغاتنا ” الإغريقية”؟ كلمات معتادة ليس لها مصير فلسفيّ والتي بفعل الترجمة، هي منتزعة من سياقات استعمال ومرفوعة إلى كرامة المتساوي، هذا المتكافئ بلا ماهية المعروف، الذي افترضنا واقعه المسبق المخفيّ على نحو ما، في مكان ما، والذي سيكتشفه المترجم. عظمة الترجمة، وخطر الترجمة: الخيانة الإبداعية للأصلي، تملّك إبداعي أيضا بواسطة لغة الاستقبال؛ بناءُ ما يقبل المقارنة comparable. لكن أليس هذا ما وقع في كثير من مراحل ثقافتنا الخاصّة، حينما ترجم ” السبعينيون” les Septante إلى اليونانية القديمة، الإنجيل العبراني، فيما نسمّيه ” السبعينيّة “la septane”، وهو ما يستطيع المتخصصون في العبرية فقط نقده بأريحية. ويعاود القديس جيروم مع القولقات la Vulgat، بناء مماثل لاتيني له. غير أنّ اللاتينيين، قبل جيروم، قد ابتكروا أكثر من مماثل، بأن قرروا من اجلنا جميعا بأنّ arêtê  تترجم virtus وpolis بـ urbs وpolittès بـ civis. وحتى نبقى في مجال العبرانية، يمكن أن نقول بأنّ لوثر لم يَبْنِ فحسب مماثلا أو شيئا قابلا للمقارنة بترجمة التوراة إلى الألمانية، “بجرمتنها” germanisant,”، مثلما يعنّ له أن يقول، قبالة لاتينية القديس جيروم، بل إنّ قد خلق أيضا اللغة الألمانية، كمماثل لللاتينية، ولإغريقية السبيعينة، ولعبرية الإنجيل.

 3-  هل نحن قد بلغنا أقاصي المتعذّر ترجمته؟ لا بما أنّنا فكّكنا رمز التكافؤ ببنائه. إنّ بناء المتكافئ قد أصبح تبريرا حتى لخيانة مزدوجة، من حيث أن كلا السيدين غير القابلين للقيس أضحيا قابلان للقيس بفضل الترجمة – البِنَاء. يتبقّى إذن مُتَعَذّرٌ ترجمَتُهُ نهائيٌّ سنكتشفه من خلال بناء المماثل. يحدث هذا البناء على مستوى ” المعنى”. إنّ ” المعنى ” هو الكلمة الوحيدة التي لم نعلّق عليها لأنّنا افترضناها. بيد أنّ المعنى منتزع من وحدته مع لحم الكلمات، هذا اللحم الذي يسمّى “الحرف”. لقد تحررّ المترجمون منه بغبطة، حتّى لا ُيتهموا: بالترجمة السطحية”؛ أليست الترجمة السطحية، الترجمة كلمة كلمة؟ يا للخجل ! يا للعار! بيد أنّ مترجمين ممتازين، على نمط هولدرلين، وبول سيلانو، في الميدان الإنجيلي، لميشونيك Meschonnic، قد شنّوا حملة ضدّ المعنى وحده، المعنى دون الحرف، ضدّ الحرف. فغادروا المأوى المريح لتكافؤ المعنى، وركبوا خطر التحرّك في ميادين خطرة حيث سيتعلّق الأمر بالصوتيّ sonorité، والذوق والإيقاع والتباعد والصمت بين الكلمات وبعلم العروض والقافية. لقد قاوم غالبية كبيرة من المترجمين، ومن غير شكّ، على نمط انج بنفسك، ودون الاعتراف بأنّ ترجمة المعنى لوحده، هو إنكار مكسب للسيميولوجيا المعاصرة، وحدة المعنى والصوت، والدال والمدلول،في مواجهة الفكرة المسبقة بأنّنا ما زلنا نجد عند هوسرل الأوّل: بأنّ المعنى تامّ في فعل ” إضفاء المعنى” ” conférer sens » لسينغوبينغ Sinngebung,الذي يتناول العبارة (A usdruck),، كثوب خارجيّ للجسم، هو في الحقيقة الروح اللامتجسّدة للمعنى l ‘ âme incorporelle du sens، للبيدنتوغ la Bedeutung( المعنى أو الدلالة)، والنتيجة هي أنّه يمكن للشاعر وحده أن يترجم لشاعر. لكننّي سأقول لبارمان Berman، لو كان على قيد الحياة – لكن مع الأسف فقد فارقنا العزيز بارمان ونحن نفتقده-، سأردّ عليه بأنّه أجلّ أبْعَدَ بدرجة بناء المتكافئ، على مستوى الحرف؛ على قاعدة النجاح المقلق لهولدرلين الذي يتحدّث إغريقيا بلغة ألمانية و، ربّما، لنجاح ميشونيك Meschonnic، الذي يتكلّم عبريا بلغة فرنسية… إذن، فالترجمة ” الحرفية” التي يرغب في ملاحقتها، ليست ترجمة كلمة بكلمة، بل حرفا بحرف. ألا يكون قد ابتعد أقصى مما يعتقد، في نقده الشبه يائس من تكافؤ المعنى للمعنى، من بناء المماثل، من مماثل حرفيّ؟ ألا تُقرأ الاستمرارية في مقاومة المتعذّر ترجمته، المتولّد دوما، في التقارب لعنوانين متعاقبين: تجربة الغريب والترجمة والحرف أو مأوى البعيد( 3).


 

                             بول ريكور – ” عن الترجمة ”    – مقطع: ترجمة المتعذّر ترجمته” ص 53-69

                                                  نشر لأول مرّة: Bayard, 2004 – باريس

الهوامش:

* جان قريش أستاذ جامعي باحث مولود 27 أوت 1942 في لوكسنبورغ درس الفلسفة في كلية الفلسفة للمؤسس الكاثوليكية بباريس، مجال بحثه الفلسفي هو الميتافيزيقا والفلسفة التاويلية المعاصرة والفلسفة والدين. مختص في هيدجر وبول ريكور.

1- باريس – طبعة سوي seuil 2000

2- فرانسوا جيليان، عن الزمن، باريس، قراسي وفاسكال 2001

3- بارمان، الترجمة والحرف أو مأوي البعيد.

رابط المصدر