منوعات

قراءة في كتاب الإنسان العاري

قراءة في كتاب الإنسان العاري

 

يأتي كتاب الإنسان العاري عملًا جديدًا للكاتبين مارك دوغان وكريستوف لإبر، وترجمة الدكتور السيميائي سعيد بنكراد.

 

يتكون الكتاب من 191 صفحة من الحجم المتوسط، ويحتوي على أكثر المواضيع نقاشًا في العصر الحالي؛ حيث يبيِّن عبر فصوله الستة عشر، وبأسلوب استنباطي ولغة إحصائية تعتمد على الكثير من الإحصاءات، كيف تستطيع مجموعة من الشركات المتعددة الجنسيات، أو ما يُعرف بـ “BIG DATA” – تكوين تغييرٍ كاملٍ في حياتنا اليومية عبر العديد من وسائل التواصل: كالفيسبوك وغوغل وآبل وأمازون وتويتر؛ حيث أصبح الناس يقدِّمون حريتهم طواعيةً عندما يُبحرون في الإنترنت، فيصبحون كأنهم يعرفون عنهم أكثر مما يعرفونه عن أنفسهم.

 

هذا ما وضَّحته مقدمة الدكتور سعيد بنكراد لهذا الكتاب، فقد بيَّن كيف أن الثورة الرقمية ورغم جمعها بين المنفعة والخير، فإنها فعلًا قد تكون أزالت مفهوم الحياة الشخصية للإنسان، وجعلت الجميع يعيش في فردانية ووحدانية، وهذا ما تسميه المحللة النفسانية الفرنسية الزاغودار (الأنا الرقمية) ”إننا جميعًا ولكن وَحدَنا”.

 

يعتبر الكتاب بمثابة أبحاث ذات جرأة عالية تكشف عن الظروف التي أصبحت تعتمدها BIG DATA لتبرير تصرُّفاتها بكونها جهادية للإرهاب، فهي بهذه التبريرات تجعل الناس أكثر استخدامًا لها، ويتواصلون عبر طريقها، ولا يفكِّرون في الاستغناء عنها؛ مما يجعلهم لا يرون إلا الوجه السطحي لها دون رؤية ما تُخفيه من الداخل، وبذلك تكون قد تحققت نبوءة أفلاطون: ”لا تعتقد أنهم إذا تداولوا فيما بينهم، فسينظرون إلى الظلال أمامهم باعتبارها أشياءَ حقيقية”، هذه النبوءة التي أصبحت تصف بشكل دقيقٍ عالَمنا الرقمي، ويوضح أن ما أصبحنا نعيشه اليوم قيدٌ بالأوهام في العالم الذي تريده البيغ داتا.

 

لقِي الكتاب – وفور صدوره – إقبالًا كبيرًا، وأصبح من أكثر الكتب مبيعًا في مجال الدراسات التي تهتم بالعالم الافتراضي، فقد جاء إنذارًا ولمحة عما يحمله المستقبل الآتي من مخاطر وصعوبات متمثلة في استحواذ مواقع التواصل الاجتماعي على عقول الناس، ومعرفة كل أمورهم وآلامهم، وتبعًا لذلك يوضح الكاتب آنفًا مفهوم “الحياة الشخصية”، ويبيِّن المعلومات الكامنة في هذا الكتاب التي تتجلي في التحكم الكبير لشركات القارة السابعة على عقول وطرق تفكير الناس وسلوكياتهم، فشركات غوغل وفيسبوك وتويتر يتوفرون على ما يطلق عليه الكاتبان “المنجم الذي يملك الذهب الأسود الجديد”، ويقصد يذلك توفُّرهم على ثمانين بالمائة من المعلومات الشخصية للرقمية الإنسانية.

 

إن هذا العالم الافتراضي الذي تتزعمه البيغ داتا، أصبح يمتلك جميع المعلومات، ويعرِف عن الناس أكثر مما يعرفونه عن أنفسهم، وهو ما تفعَله وكالة الأمن القومي الأمريكية، فهي تملك أكثر المعلومات عن موظَّفيها أكثر حتى مما يعرِفه عنهم جهاز “ستازي” في زمن ألمانيا الشرقية.

 

إنها تعرف كل اتصالاتهم وتحرُّكاتهم، وهو الأمر الذي يجعلنا نُدرك مدى خطورة هذه المواقع، فإذا كانت فعلًا جيدة، فما معنى انتقاد الفيلسوف والكاتب الإيطالي الشهير والكبير (أمبرتو إيكو) لها حينما تحدث في مقابلة صحفية، فقال: “إن أدوات مثل تويتر وفيسبوك تمنَح حق الكلام لفيالق من الحمقى ممن كانوا يتكلمون في البارات فقط بعد تناول كأس من النبيذ، من دون أن يتسببوا في أي ضرر للمجتمع، وكان يتم إسكاتهم فورًا، أما الآن فلهم الحق في الكلام مثل من يحمل جائزة نوبل، إنه غزو البلهاء”.

 

لهذا يؤكد المؤلفان أن كل ما نفعله، سواء من اقتناء الأغراض، أو تواصل مع العائلة، أو ما سنفعله في كل يوم من أيامنا العادية، يتم ترقُّبه ومتابعته.

 

إن هذه المواقع ترسل في اليوم الواحد حوالي 300000 تغريدة، و 15 مليون رسالة قصيرة، و 204 مليون رسالة إلكترونية في كل أنحاء العالم، وترقم الأجهزة المحمولة والهواتف الذكية الأخرى أدوات أخرى تحصل من خلالها البيغ داتا على معطياتنا الشخصية، وتود منا أن نترقبها، ونعمل بها، لذلك فهي تجد نوم الإنسان عائقًا يواجهها، ويعرقل طريقها إلى النجاح، لذا فإنها تركِّز دراستها واهتماماتها عليه، من خلال دراسته طائر الشرشور وذي العنق الأبيض هذا الطائر الذي يستطيع أن يبقى مستيقظًا سبعة أيام متتالية أثناء هجرته، من أجل ذلك وضعت وزارة الدفاع الأمريكية برنامجًا لمدة خمس سنوات بغية الاستفادة من قدرته الفريدة والمقاولة، من خلال تكوين أشخاص يستغنون عن النوم فترة طويلة، وبفضل كل ما ذكرناه، فقد صُنفت شركة غوغل أحسن مقاولة في العالم في أقل من 15 سنة، وقد وصلت قيمتها في البورصة إلى 544 مليار دولار.

 

إن التطور الهائل الذي وصلت إليه البيغ داتا جعلها تترقب البشرية جمعاءَ، تترقب أنماط حياتنا وأنواع الموسيقى التي نُحبها وصورنا العائلية، وغير ذلك، لهذا وجب علينا احترام أوقات استعمالها وعدم الإدمان عليها، وإنما التقليص من استعمالها والرجوع إلى أجواء الدفء العائلي والعلاقة الحقيقية.