منوعات

ماذا أصاب المجتمع والعقل المصري؟

خلال الأسابيع الماضية طفحت في وجوهنا وضيّقت صدورها وألهبت تساؤلاتنا العديد من حوادث العنف العدمي والعشوائي والمعنوي، من مقتل مصور شاهده الجميع لطالبة المنصورة على يد من أحبها، زميلها الذي أحيلت أوراقه للمفتي، في قضية تابعناها جميعا، إلى قتل بشع للمذيعة السابقة على يد زوجها ذي المركز القضائي المرموق، والذي حاول تضليل العدالة ببلاغ كاذب عن اختفائها أثار الشكوك حوله حتى كُشفت الحقيقة، إلى انتحار آخرين، إلى انتشار حوادث الطلاق، التي بلغت حسب الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء في ديسمبر سنة 2021 نحو 20.7 ألف حالة طلاق، بينما كانت 19.1 ألف حالة طلاق في شهر ديسمبر عام 2020، بزيادة بلغت 1.6 ألف حالة طلاق، هذا فضلا عما تزخر به محاكم الأسرة من قضايا تهدد السلم والطفولة والمستقبل معهم.
وحسب مكتب النائب العام بلغت حوادث الانتحار في مصر نحو 2584 حالة انتحار وقعت عام 2021، رغم تراجعها عن أعوام سابقة، ففي العام 2016 شهدت 3799 حالة انتحار في عام 2016، وتجاوز عدد الرجال المنتحرين أعداد النساء المنتحرات (3095 مقابل 704). وهي تحتل المركز الأول عربيا وبعدها السودان حسب تقرير لمنظمة الصحة العالمية صدر عام 2019.
هذه مؤشرات عامة ومحدودة عن أزمات مجتمعية تستحق الانتباه والتفاعل الإيجابي معها، ولكنها ليست وحدها، فانتشار السلوكيات السلبية من الكذب والنفاق وأعمال النصب، كما شهدنا فيما عرف بقضايا المستريح في عدد من المحافظات، قبلي وبحري، وانتشار السلوكيات المرفوضة من التحرش اللفظي والجسدي بالمواطنين والسائحين، إلى انتشار أغاني المهرجانات والعاميات السفلى والعنف اللغوي والتسفيه والفضائحية في الجدل العام والنخبوي أحيانا كثيرة، وانتشار سلوكيات التسول والنفاق والمجاملة والكذب والتملق والتسلق والتكسب غير المشروع عند من قد لا يحتاجون له، مما نطالعه يوميا في حياتنا ولا يمكن إنكاره.
كل ما سبق يطرح ويشرعن للسؤال: ماذا أصاب المجتمع والعقل المصري؟
لا أتحدث هنا عن ماضٍ ذهبي وحاضر غير ذهبي، فكل السلوكيات السلبية وغير المقبولة موجودة في كل زمان ومكان، ولا أبحث تشاؤما عن إدانة مجتمعية، ولكن أنبّه لأزمة قيمية تترافق مع الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي يعاني منها العالم وليس فقط المصريون، ولكن الحقيقة أننا خسرنا الكثير مما كان إيجابيا في مجتمعاتنا في السابق، ريفا وحضرا، غنى وفقرا، داخل الأسرة وبين الجيران وبين أبناء الحارة والحي والمدينة.
كان احترام الكبير وكان الكبير قدوة ونموذجا ومثالا يتعلم منه، كانت المحبة بين الجميع، وليست الكراهية والمقارنات المستفزة والمثيرة مع الآخرين، كان الكرم والمسؤولية الأخلاقية والعرفية تجاه اليتيم والفقير والمحتاج..
الآن تنشط ثمار الكراهية الخبيثة بين الأبناء وذويهم وبين أبناء الأسرة الواحدة، تحول عمل الخير لغاية شهرة وحضور اجتماعي يبتغي مغنما وثمنا بنشره على المواقع التواصلية، من مساعدة محتاج إلى علاج فقير إلى تيسير يتيم، بل وسيلة أحيانا للنصب والتكسب غير المشروع، وكم من جمعيات خيرية نهبها بعض الفاسدين ونهبوا أموالها التي كانت محفوظة للأيتام أو الفقراء وهم يلبسون مسوح الملائكة وأقنعة العطاء والمحبة.
غابت قيم كانت موجودة، ونحن بحاجة لوجودها، نحتاج لتشجيع التعليم رغم كآبة البطالة التي تنتظر كثير من المتعلمين، نحتاج إعادة هيبة المتحضر والمتعلم والكبير للأسرة والمجتمع، نحتاج مسؤولية كل رمز اجتماعي، نحتاج أخلاق التعفف عن استغلال القادر لغير القادر أو المتعلم للجاهل، نحتاج الترفع عن توظيف الآخرين للمصلحة الذاتية المحضة، كانت النخبة المتعلمة والوسطى الثقافية تقدم نموذجها ومثالها في التعبير والتفكير للآخرين، آما الآن فإما انعزلت في همومها أو تقوقعت في ذاتيتها ولم تعد تقدم إلا نماذج سلبية، يبرر بها من هم أقل سلوكياتهم..
نحن بحاجة لصحوة وثورة قيمية وأخلاقية لا تضع الناس في صراع مع إيمانهم ولا صراع مع دنياهم، تدرك حاجياتهم وتدرك عصرهم، وتصنع لهم الأمل في حياة أجمل يمكنهم أن يصنعوها، نحتاج سياسات ثقافية وندوات تفاعلية ودورات تشجيعية، نجتاج أنسنة كل علاقاتنا لا توظيفها أو تسييسها، نحتاج خطابا دينيا وثقافيا قائما على المحبة والتنوع والحوار الراقي وليس سجالات فضائحية تسطّح الوعي وتجعل القدوة أحط من المتلقي.
نحتاج أن تعيد اكتشاف ذواتنا ورقينا وتصنع أخلاقا حضارية مسؤولة في تفاعلنا العام وجدلنا العام وعلاقتنا بذواتنا والعالم من حولنا..
ينبغي ألا نتسرع في قراءة هذه الأزمة المجتمعية والقيمية من زاوية أحادية وضيقة، فيلقي بالتهم على العصر وتقنياته ووثورة معلوماته واتصاله، أو نختصر كل شئ في بعد الناس عن الدين أو أزمة خطابه، فالناس لا تزال متدينة ولكنه تدين طقوسي أو توظيفي لم ينزرع فيه كثير من أبواب التدين الحضاري والسلوكي والروحي الذي يصفي نفوسهم..
نحتاج دورات لتأهيل الشباب للزواج قيميا وأخلاقيا، نحتاج رقابة نشطة لكل السلوكيات الفاسدة في الخاص والعام، وتشجيعا لكل السلوكيات الإيجابية…
عام 1901 نجح محمد فريد في تأسيس المدارس الليلية لمحو الأمية.. نحتاج الآن محو الأمية الثقافية والأخلاقية كذلك..
في العقد الأول من القرن الماضي كانت باحثة البادية ملك حفني ناصف تقرأ الصحف والكتب للفلاحات في بادية الفيوم.. نحتاج عودة هذا النشاط…نحتاج غرسا للكرامة يمنع التسول وغرسا للمسؤولية يمنع الانعزال ويشعر بعار السلبية.. نحتاج ثقافة قانونية تمكن للمساواة وتجعل المصري يعتز بمواطنته.. نحتاج ثقافة وفنا يرقي من وعي الناس ومن سلوكهم فلا يفعلون إلا ما يليق..
نحتاج نخبة نشطة وفاعلة ومسؤولة ومدعومة تشعر بالأمان وتزرع في المجتمع شعور الأمان ومحبة الحياة والقدرة على التحدي والتنافس الشريف دون يأس.. نحتاج سياسة ثقافية وتنويرية لا تصطدم مع القديم بل تحسن توظيفه ولا تستلب لكل جديد بل تحسن ترشيده.
وختاما إن الأمم تنهزم بثقافتها وأغانيها كما كان يقول كونفوشيوس وكذلك تقوم وتنهض.. نحن بحاجة لمشروع ثقافي يدرك ما نحتاج ويعالج ما يعانيه مجتمعنا وأبناؤنا خاصا وعاما.