منوعات

مراجعات في فكر توما الأكويني

تعريب فريق دار الأكاديمية للطباعة والنشر والتوزيع لملخص محاضرة قدمها الطبيب مصعب قاسم عزاوي باللغة الإنجليزية في مركز دار الأكاديمية الثقافي في لندن.


 

كان توما الأكويني لاهوتياً مسيحياً مبجلاً من العصور الوسطى عاش بين 1225 و 1274 ميلادي. وهو لا يزال مهماً وحاضراً في حيواتنا المعاصرة لما قدمه من طروحات لمواجهة مشكلة سرمدية ما زالت تعرقل كل البشر بدرجات مختلفة ألا وهي: كيف يمكننا التوفيق بين الدين والعلم، والإيمان والعقل.

كان الأكويني فيلسوفاً وقديساً تقياً، رفض أن يفقد إيمانه أو أن يؤمن بلا عقل، فقد طوّر فهماً جديداً لمكان العقل في الحياة البشرية. كانت مساهمة الأكويني الضخمة في تعليم الحضارة الأوروبية الغربية أن أي إنسان – وليس فقط المسيحي – يمكنه الوصول إلى حقائق عظيمة كلما استفاد من أعظم هبة من الإله للبشر ألا وهي العقل بحسب نهج الأكويني الفكري. لقد كسر الأكويني حاجزاً في التفكير المسيحي متمثلاً في مسألة كيف يمكن لغير المسيحيين أن يتمتعوا بالحكمة وفي نفس الوقت لا يهتموا أو حتى يعلموا بيسوع المسيح عيسى ابن مريم. لقد قام بجعل الإبداع العقلي عالمياً وفتح العقل المسيحي على رؤى البشرية جمعاء من مختلف الأزمان والقارات.

وُلد توماس الأكويني لعائلة نبيلة في إيطاليا في عام 1225. بينما كان شاباً، ذهب للدراسة في جامعة نابولي وهناك أصبح في اتصال مع مصدر المعرفة الذي تم إعادة اكتشافه في ذلك الوقت والخاص بالمؤلفين اليونانيين القدماء والرومانيين، الذين سبق أن تجنبهم الأكاديميون المسيحيون. وفي الجامعة، تعرض الأكويني أيضاً لتأثير الدومينيكيين، وهو نظام جديد من الرهبان الذين اعتقدوا، على عكس المجموعات الأخرى، أنه ينبغي عليهم العيش في العالم الخارجي وفي المجتمع الأكبر، بدلاً من الدير الرهباني.

وضد إرادة عائلته، قرر الأكويني أن ينضم إلى فريق الدومينكيين. وكان رد عائلته المتدين بشكل مهول تمثل في خطفه وحبسه في برج يملكونه. وكتب الأكويني رسائل يائسة إلى البابا، يجادل فيها بقضيته ويدافع عن إطلاق سراحه. ومع ذلك، كان البابا مشغولاً بالمسائل السياسية، وهكذا ظل الأكويني محبوساً وقضى الوقت في كتابة رسائل إلى الرهبان الدومينيكان وتدريس أخواته الفتيات. ووفقاً لأحد الحكايات عن سيرة الأكويني الشاب، قامت عائلته خلال فترة حبسه الفترة بتزويده بمومس في ثوب مكشوف الصدر على أمل إغوائه بعيداً عن فكرته بأن يكون راهباً مع الدومينكيين، لكن الأكويني دفع السيدة الشابة بقضيب من حديد بعيداً عنه حتى تخرج من الغرفة التي كان محبوساً بها.

وعندما رأت أسرة الأكويني أنهم لم يصلوا إلى أي حل معه، أخيراً، قامت بفك أسره لينضم الأكويني الضال (في أعينهم) إلى النظام الدومينيكي للأبد.

 بعد استئناف تعليمه المتقطع، ذهب الأكويني للدراسة في جامعة باريس، حيث كان طالباً هادئاً بشكل ملحوظ، لكنه كان مؤلفاً غزير الإنتاج بصورة استثنائية، حيث كتب ما يقرب من 200 كتاباً عن اللاهوت المسيحي في أقل من ثلاثة عقود. تحمل كتبه عناوين جميلة وغريبة، مثل الخلاصة اللاهوتية والخلاصة ضد الوثنيين. وأصبح أيضاً مدرساً ذو شعبية كبيرة ومؤثراً بين الطلاب وسمح له في نهاية الأمر من قبل القيادة الدومينيكية بتأسيس مدرسته اللاهوتية الخاصة. بعد وفاته، تم إضافته إلى قائمة القديسين في الكنيسة الكاثوليكية وهو الآن القديس الراعي للمعلمين.

كان أحد طموحات الأكويني الفكرية الأساسية هي فهم كيف يمكن للناس أن يعرفوا ما هو الصواب والخطأ، لأنه كمسيحي، أراد أن يعرف كيف يمكن للشخص أن يتأكد من أن تصرفاته ستسمح له بالذهاب إلى نعيم السماء الأخروي بعد موته. وكان الأكويني يدرك أن العديد من الأفكار التي بدت صحيحة للغاية لم تكن من عمل المسيحيين. على سبيل المثال، لقد كان معجباً بأرسطو بشكل خاص، على الرغم من أنه رجل غير مدرك لحقائق الأناجيل. وفي استجابة لهذه المعضلة، قدم الأكويني حجة مهمة للغاية عن توافق المعتقد الديني والفكر العقلاني. إذ عرف الأكويني أن العديد من الفلاسفة العظماء كانوا وثنيين، لكن هذا لم يمنعهم من الاستبصار المعرفي لأنه، كما اقترح الأكويني، يمكن استكشاف العالم بطريقة مفيدة من خلال العقل وحده. لتوضيح كيف يمكن أن يعمل هذا، اقترح الأكويني أن الكون وجميع حركياته تعمل وفقاً لنوعين من القوانين السرمدية: “القانون الطبيعي” المعاش في حيوات بني البشر و”القانون الأزلي” المقدس.

بالنسبة إلى الأكويني، يمكن صياغة العديد من “القوانين المصغرة” من تجربتنا الخاصة مع العالم. غذ يمكن أن نكتشف بأنفسنا كيف نشم رائحة الحديد الصدئ، أو نبني قناة مائية، أو ننظم اقتصاداً عادلاً. وجميعها جزئيات من شبكة القوانين الطبيعية. لكن كانت هناك قوانين “أبدية” أخرى ظاهرة أي الأشياء التي لم يكن من الممكن أن يصل إليها العقل بمفرده، من قبيل الاعتقاد والإيمان -إذا كنا مؤمنين متدينين- أننا بعد موتنا سوف نحاكم من قبل إله رحيم أو أن يسوع كان إنسانياً ومقدساً في آن واحد، وأنه يجب أن نعتمد على الوحي في الكتب المقدسة، كما لو أنه علينا أن نأخذ بمحتواها بثقة مطلقة من سلطة أعلى.

وفي تعليق كتبه عن الفيلسوف الروماني بوثيوس، رسم الأكويني افتراضاً سائداً حينئذٍ: “لا يمكن لعقل الإنسان أن يعرف أي حقيقة ما لم يضيء عليه النور من الإله “. كان هذا هو الرأي القائل بأن كل شيء من المهم بالنسبة لنا أن نفهمه يجب أن يأتي من مصدر واحد معتمد ألا وهو الإله. ولكن في مقابل هذه الفكرة، جادل الأكويني بأنه “ليس من الضروري أن يُمنح العقلُ البشريُ أي ضوءٍ جديد من الإله لفهم تلك الأشياء التي تدخل في المجال الطبيعي للمعرفة”.

وكانت الخطوة الجذرية التي اتخذها الأكويني هي إتاحة مساحة مهمة لـ “القانون الطبيعي” في حياة بني البشر. لقد كان يناصر أهمية الملاحظة الشخصية والتجربة. وكان قلقه هو أن الكتاب المقدس كان مصدراً مرموقاً لدرجة أنه يمكن أن يَغمُر الملاحظة المدققة إذ سيكون الناس متأثرين للغاية بالوحي عن السلطة لدرجة أنهم سوف يقللون من أهمية الملاحظة والتجربة العملية وما يمكننا اكتشافه بمفردنا.

وقد كانت النقطة التي طرحها الأكويني هي أن القانون الأزلي وذلك الطبيعي ضروريان في آن معاً لحياة صالحة. إنهما ليسا – كما جادل – متعارضين بشكل أساسي. وتأتي المشاكل عندما نصرّ على أيّ منهما وعلى صلاحيته الحصرية.

وكان معاصرو الأكويني على وعي بالإغريق والرومان الوثنيين القدماء على نطاق واسع، لكنهم رأوا أن “الوثنيين” ببساطة لا يمكن أن يكون لديهم أي شيء مهم لقوله عن المواضيع التي شعروا أنها تهمهم حقاً. وبنظرهم لم يكن خطأ القدماء أنهم قد عاشوا قبل يسوع. لكنهم يحملون مسؤولية بشكل ما كونهم مخطئين في قضية الحياة الأكثر أهمية ألا وهي نموذج الاعتقاد الديني الذي تبنوه. وبدا هذا مبالغاً فيه في منظور الأكويني عند الاعتقاد بأنه لا يوجد شيء ذو قيمة فلسفية مما اعتقد الفلاسفة الوثنيون أنه يمكن أن يكون مفيداً أو مهماً بأي شكل من الأشكال. وكان نهج الأكويني ينظر إلى أن الأشخاص الذين يتم تضليلهم في بعض المحاور الفكرية الأساسية لا يزال لديهم الكثير للتعلم منهم. وقدم مثلاً على ذلك مفاده أننا نمتلك ميلاً إلى رفض فكرة معينة بسبب خلفيتها وليس فحواها إذ إننا نشعر بأننا لن نستمع إلى أي مقول إلا إذا جاء الكلام من المكان الصحيح الذي نعتقد بأنه المصدر الموثوق للمعرفة دون محاكمة الفكرة نفسها فكرياً بالشكل الوافي.

وكمثال معاصر على تلك الجمودية الفكرية التي انتقدها الأكويني يمكن أن تلتقي ملحداً قاطناً في لندن راهناً يظن بأنه من غير المعقول أن يكون هناك أي شيء على الإطلاق ليتعلمه من قراءة الإنجيل وفقاً لرواية يوحنا أو بولص. فهو يعتقد أن الكتاب المقدس مخطئ في نقاط أساسية على نحو واضح وهو يحتوي على أخطاء بدائية حول أصول العالم، ومليء بالمعجزات المختلقة. وهو الأمر الذي يشبه الطريقة التي شعر بها المسيحيون في العصور الوسطى حول الكُتَّاب الوثنيين القدامى وخاصة من الفلاسفة اليونانيين والرومان السالفين لهم.

إن النقطة الأساسية بالنسبة للأكويني هي أن القانون الطبيعي هو جزء فرعي من القانون الأبدي الأزلي، ويمكن اكتشافه من خلال قُدرة العقل المستقل في التفكير والبحث والتنقيب. وقد ضرب الأكويني مثالاً على ذلك بأمر عيسى ابن مريم بـأن “تعامل الآخرين كما تريد أن يعاملوك”. ربما يكون يسوع المسيح قد أعطى هذه الفكرة صياغة بليغة لا تُنسى، لكنها في الحقيقة كانت حجر الزاوية في المبادئ الأخلاقية في معظم المجتمعات في جميع الأوقات. كيف يكون هذا ممكناً؟ زعم الأكويني أن السبب وراء ذلك هو أن القانون الطبيعي لا يحتاج إلى تدخل الإله المباشر لجعله معروفاً للإنسان. وعن طريق التفكير بعناية فحسب، يتبع المرء إرادة الإله بشكل حدسي. واعترف الأكويني بأن هناك حالات قليلة يعمل فيها الإله ببساطة من خلال الشريعة الإلهية خارج حدود العقل البشري؛ وأعطى مثالاً عن ذلك في الوحي النبوي وزيارات الملائكة التي يؤمن بها المتدينون، ومع ذلك فإنه يمكن العثور على المعرفة الأكثر فائدة لحيوات بني البشر في عالم القانون الطبيعي.

وقد انتشرت أفكار الأكويني في وقت كانت فيه الثقافة الإسلامية تعاني من معضلات مشابهة للمسيحية، من حيث كيفية التوفيق بين العقل والإيمان. ولفترة طويلة، ازدهرت الخلافة الإسلامية في الأندلس والمغرب ومصر، مما ولّد ثروة من المعرفة العلمية الجديدة والفلسفة الجديدة. ومع ذلك، وبسبب تزايد نفوذ الزعماء الدينيين المتزمتين فكرياً، فقد أصبحوا أكثر عقائدية وتصلباً فكرياً عندما ظهر الأكويني، وهو ما تجلى في الاستقبال المتجهم والعدواني لأفكار الفيلسوف الإسلامي ابن رشد بين ظهرانيه. ومثل الأكويني، كان ابن رشد متأثراً بعمق بأرسطو وقد زعم بأن العقل والدين متوافقان. ومع ذلك، فإن الخلافة التي كانت حريصة على ألا يتم الخروج عن كلمات الله الحرفية أبداً، وهو ما أدى لحظر أفكار ابن رشد وحرق كتبه.

وقد قرأ الأكويني ابن رشد ورأى أنه والباحث المسلم الدؤوب كانا منخرطين في مشاريع مماثلة. لقد كان يعلم أن رفض العالم الإسلامي الجذري المتزايد للعقل كان يضر بما كانت عليه من قبل ثقافته الفكرية المزدهرة في العالم الإسلامي.

رغم أن الأكويني كان رجلاً ذو إيمان لاهوتي عميق، إلا أنه قدم إطاراً فلسفياً لعملية الشك والبحث العلمي المفتوح. إنه يذكرنا بأن الحكمة والمعرفة والأفكار الصالحة يمكن أن تأتي من مصادر متعددة، من قبيل الحدس مثلاً ومن العقلانية أيضاً، ومن العلم وكذلك من الوحي، ومن الوثنيين في آن معاً. لقد كان الأكويني مؤيداً ونصيراً لكل تلك المناهل المعرفية، ويأخذ ويستخدم أياً من نتاجها يظن بأنه يمكن أن يؤتي ثماراً نافعة على المستوى الفلسفي والفكري والحياتي المعاش، بدون أن يهتم من أين تأتي هذه الأفكار فالأهمية لدى الأكويني دائماً وأبداً كانت لصلاحية الفكرة نفسها وليس مصدرها.