منوعات

مشاهد من قصص البطولات الإسلامية

مشاهد من قصص البطولات الإسلامية

هذه قصة من أبهى قصص البطولة الإسلامية التي برزت فيها ملامحها وتميزها؛ قال الذهبي رحمه الله في سير أعلام النبلاء: “وفي سنة 463 هـ كانت الملحمة العظمى بين الإسلام والنصارى.

 

قال ابن الأثير: خرج أرمانوس في مائتي ألف، وقصد الإسلام، ووصل إلى بلاد خلاط، وكان السلطان ألب أرسلان “بخوى”، فبلغه كثرة العدو، وهو في خمسة عشر ألف فارس، فقال: أنا ألتقيهم، فإن سلمت، فبنعمة الله، وإن قُتلت، فملكشاه ولي عهدي.

 

فوقعت طلائعه على طلائعهم، فانكسر العدو، وأسر مقدمهم، فلما التقى الجمعان، بعث السلطان يطلب الهدنة، فقال أرمانوس: لا هدنة إلا ببذل الري، فانزعج السلطان، فقال له إمامه أبو نصر: إنك تقاتل عن دين وعد الله بنصره وإظهاره على الأديان، فأرجو أن يكون الله قد كتب باسمك هذا الفتح، والْقهم يوم الجمعة، والساعة التي يكون الخطباء على المنابر يدعون للمجاهدين، فصلى به، وبكى السلطان، وبكى الناس، ودعا، وأمَّنوا، وقال: من أراد أن ينصرف فلينصرف، فما ثَمَّ سلطان يأمر وينهى، ورمى القوس وسلَّ السيف، وعقد بيده ذنب فرسه، وفعل الجند كذلك، ولبس البياض، وتحنط، وقال: إن قُتلت، فهذا كفني، ثم حمل، فلما لاطخ العدو، ترجل، وعفر وجهه في التراب، وأكثر التضرع، ثم ركب، وحصل المسلمون في الوسط، فقتلوا في الروم كيف شاؤوا، ونزل النصر، وتطايرت الرؤوس، وأُسر ملك الروم، وأُحضر بين يدي السلطان، فضربه بالمقرعة، وقال: ألم أسألك الهدنة؟ قال: لا توبخ، وافعل ما تريد، قال: ما كنت تفعل لو أسرتني؟ قال: أفعل القبيح، قال: فما تظن بي؟

 

قال: تقتلني أو تشهرني في بلادك، والثالثة بعيدة؛ أن تعفو، وتأخذ الأموال، قال: ما عزمت على غيرها، ففكَّ نفسه بألف ألف دينار وخمسمائة دينار، وبكل أسير في مملكته، فأنزله في خيمته، وخلع عليه، وبعث له عشرة آلاف دينار ليتجهز بها، وأطلق له عدة بطارقة، وهادنه خمسين سنة، وشيعه، وأما جيشه فملكوا ميخائيل، ومضى أرمانوس، فبلغه ذهاب ملكه، فترهَّب، ولبس الصوف، وجمع ما قدر عليه من الذهب، فكان نحو ثلاثمائة ألف دينار، فبعثها واعتذر”.

 

أضواء على عناصر القصة ومشاهدها:

هذه القصة غنية بالمشاهد والمواقف والأحداث.

 

المشهد الأول: نرى أرمانوس بجيشه الحاشد الذي بلغ نحو مائتي ألف جاء يحارب الإسلام.

 

المشهد الثاني: علم ألب أرسلان بكثرة الأعداء، وليس معه سوى خمسة عشر ألفًا، ومع هذا يبدو لنا عزمه على القتال، وترقبه للموت، وتوصيته بالعهد لملكشاه.

 

المشهد الثالث: عرض الهدنة على أرمانوس، يكشف عن رغبة ألب أرسلان في تفادي القتال، حتى يتثنى له الاستعداد التام لملاقاة هذا الجيش الكثيف.

 

المشهد الرابع: رفض أرمانوس للهدنة إلا ببذل الري، مما يكشف عن صلفه وغروره وطمعه في بلاد المسلمين، ثم انزعاج السلطان لهذا، واستوثاقه من القتال، وبشارته بانتصار طلائع جيشه على جيش العدو.

 

المشهد الخامس: للإمام أبي نصر الذي بث الحماس في هذا القائد، وشحذ العزائم بكلماته المفعمة بالإيمان والتفاؤل، وكمال التوكل على الله وحسن الظن به.

 

المشهد السادس: يكشف عن طبيعة الشخصية الإسلامية في اللجوء إلى الله، والتضرع إليه بالبكاء والدعاء والانكسار؛ لاستمداد العون منه.

 

ثم بيان التعبئة النفسية والتهيئة الإيمانية من هذا القائد العظيم لجنوده، بجعله أمر القتال عرضًا منه لا فرضًا، ووضعه الأمر بين أيديهم؛ ليكونوا مثله في تحمل المسؤولية، والإحساس بالمشاركة، وقد تهيأ بلبسه البياض، ووضعه الحنوط للموت؛ طلبًا للشهادة ولقاء الله.

 

المشهد السابع: مشهد المعركة يتراءى لنا من خلال قلة قليلة مؤمنة تلبس الأكفان، وتحرص على الموت، مقابل جيش جرار، فتخترق هذه القلة وسط الجيش، وتضرب فيه يمينًا وشمالًا، فتتطاير الرؤوس، وتسيل الدماء، وينزل نصر الله، فيؤسر الملك، ويقف بين يدي السلطان في ذل وانكسار.

 

المشهد الأخير: وبه حوار كاشف عن شخصية ألب أرسلان، تلك الشخصية القوية بإيمانها، التي لم تنهزم أمام المخاطر التي أحاطت بها من كل جانب، بل وقف متواضعًا في موطن النصر الذي يكون فيه الفخر والانتقام، يقدم العفو ويرضي بالفداء.

 

الأحداث:

تدور هذه القصة حول محنة شديدة تعرض لها قائد عظيم، فبرزت من خلالها شخصيته الفذة، وتعرفنا فيها على تاريخ بدت فيه ملامح عصر وصفات أمة، تستهدف في دينها وثرواتها، وشهدنا تجربة إنسانية حقيقية متميزة، في جميل التوكل على الله مع الأخذ بالأسباب، التي نحن أحوج ما نكون إليها في أيامنا هذه؛ لنضيء بها مستقبلنا المجهول، وحاضرنا المظلم، والشجاعة والتحدي في هذه القصص شيء يقاوم الإحباط، ويبعث أملًا جديدًا في النفوس الضعيفة أو المنهزمة.

 

وتبدو الفكرة من وراء الأحداث في الحث على الجهاد ضد أعداء الله، والاعتماد على الله دون إهمال الأسباب، والتعرف على قوة الحق الخفية التي لا يدركها أهل البغي الذي لا شك في اندحاره، مع عدم الاكتراث بعَددِ الأعداء وعُددهم مهما بلغت، ليقين المؤمن في أن الحق منصور، والباطل مقهور.

 

الشخصيات:

1- ألب أرسلان: تقدم القصة مركزه ومكانته ومنزلته، فهو سلطان قوي الإيمان، يستشير ويستطلع، ويأخذ القرار المناسب، ونراه من الداخل متواضعًا حليمًا، يؤثِر العفو.

 

2- أرمانوس: قائد، تكشف القصة عن طبيعته وأعماقه وصفاته البغيضة، فهو شخص تبدو عليه شهوة الطغيان العارمة، والطمع في بلاد المسلمين، وحرب دينهم، كما يتملكه الغرور الأحمق بقلة عدد المسلمين آنذاك، وظن ضعفهم.

 

3- الإمام أبو نصر: تبدو ملامحه الداخلية من خلال نصحه وكلامه، فهو رجل ممتلئ بذخيرة الإيمان، معبَّأ بكمال اليقين، وصدق التوكل، يفيض على من حوله قوة وثباتًا.

 

وهكذا اعتنى الذهبي رحمه الله برواية قصص البطولات وأهل الروايات عند ترجمته لهم؛ لِما لهم من أثر بالغ في حياة المجتمع أو موته، وليُري القارئ من خلالها كيف تكون البطولة، وكيف تكون التضحية والمثابرة، ويستشعر على الدوام ما يجب عليه نحو دينه ووطنه.