منوعات

هضبة أوستيورت.. حصن ممتد و”فخ” للفرائس عمره 2000 عام | قل ودل

تخفي هضبة أوستيورت الكثير من الأسرار والألغاز، التي بذل الباحثون والعلماء جهودًا كبيرة، في محاولة الإجابة عليها، ولمعرفة المزيد عن بيئتها، وكيفية تفاعل البشر قديمًا معها، لتَحمل لنا تلك المعالم والآثار الصلبة، التي تحدت الظروف والزمن، وصمدت حتى وقتنا هذا.

هضبة أوستيورت

تقع هضبة أوستيورت «Ustyurt» بين بحر قزوين وبحر آرال، والتي تمتد عبر كازخستان، أوزبكستان، وتركمانستان، وتبلغ مساحة امتدادها نحو 200 ألف كيلومتر مربع، أي ما يعادل مساحة إنجلترا وأسكتلندا معًا، يبلغ متوسط ​​ارتفاعها 160–180 مترا، بينما يصل ارتفاع الحواف الحادة فيها إلى 370 مترا تقريبًا.

تكوينها

يرجح بعض علماء الجيولوجيا أن هضبة أوستيورت كانت جزءًا من بحر مساحته شاسعة، يعرف ببحر تيثيس «Tethys Seaway»، وهو البحر القديم الذي كان يفصل بين القارات، أثناء العصور المختلفة على مر السنين، وقد تميز بحر تيثيس بأن موقعه غير ثابت، حيث يتغير وفقًا لحركة القارات المختلفة، كما يُعتقد أنه شكل 3 بحار:

  • البحر الأسود.
  • بحر آرال.
  • وبحر قزوين.

وقد تشكلت الهضبة من نتوءات صخرية كلسية، إثر عوامل التعرية المختلفة في الصحراء، والتي تنتشر فيها أودية جافة، بجانب تكوينات صخرية حمراء، وتتوزع بين جنباتها تجمعات هائلة من الملح، والصخور اللينة المنزلقة، بالإضافة إلى الطباشير، وهو حجر كلسي أبيض ناعم، ذو حبيبات دقيقة، والذي وُجد به بعض الحفريات للأصداف، كذلك أسنان القرش وبقايا أحياء مائية متحجرة، لا بد وأنها عاشت في الماضي، بين طيات البحر المطمور.

مناخ الهضبة

تتلقى الهضبة سنويًا نسبة ضئيلة جدًا من المطر، وتتباين درجات الحرارة فيها موسميًا بحسب تغيير الفصول، إذ تصل درجة الحرارة فيها 40 مئوية خلال فصل الصيف، و40 تحت الصفر في فصل الشتاء، وتُطل بعض أجزاء الهضبة على بقاع ملحية ضخمة، تتحول في كثير من الأحيان إلى بحيرات ضحلة، والتي تظهر عادةً بعد تجمع مياه المطر النادرة جدًا، ثم سرعان ما تختفي مثلما ظهرت، لذا فإنها تعد من الأماكن النائية جدًا، التي لا يسكنها سوى بضع قبائل مختلفة، تكون غالبًا قبائل مرتحلة.

مساكن مُحصنة

هضبة أوستيورت

على الرغم من خواء تلك المنطقة الغامضة، إلا أن العلماء يظنون أنها تخفي أسرارًا وحكايات، إذ توجد بها الكثير من التحصينات القديمة، غامضة الشكل والمظهر، مما يرجح احتمالية أن هناك أناسًا عاشوا، ومارسوا حياتهم بشكل طبيعي، في ظل تلك الظروف المعيشية القاسية.

ولكن يبقى السؤال، كيف عاش هؤلاء الأناس منذ ملايين السنين؟ وبم حصنوا أنفسهم؟ وقد استطاع العلماء الإجابة على هذه الأسئلة، بعد تحليل دقيق لتلك الأبنية، التي اتخذت شكل أقماع في هضبة أوستيورت، والتي تم اكتشافها لأول مرة، من قبل عالم الآثار الروسي سيرغي تولستوف، في عام 1952، وقد توصل من خلال القيام ببعض الدراسات، الخاصة بالكربون المشع، أن غالبية هذه الأبنية تعود لأكثر من 2000 عام مضت.

هكذا رجح علماء الجيولوجيا، أن تلك الأبنية كانت تستخدم لهدفين رئيسيين، إما مساكن مُحصنة للأشخاص الذين عاشوا في تلك الحقبة، ولتربية حيواناتهم أيضًا، أو أنها استُخدمت للقيام ببعض الطقوس المعينة، المتعلقة بالممارسات الدينية الرسمية، والعبادات القديمة.

مصائد قوية

هضبة أوستيورت

بينما رجح علماء آخرون، وفقًا لدراستهم الإثنوجرافية، أن هذه الأبنية استُخدمت لغرض آخر، حتى منتصف القرن العشرين، وأن الهدف منها هو جمع وصيد الفرائس من الحيوانات الضارية، أو الطيور الكاسرة، ولكن تبقى النظرية الأكثر شيوعًا، أن هذه القطع الأثرية صُممت خصيصًا في تلك الآونة، لتصبح مصائد قوية، للأغنام والحمير الآسيوية البرية.

هذا بالإضافة إلى صيد ظباء السايغا، وهو نوع من الظباء، كان يقطن السهول الأوراسية الواسعة من سفوح الكاربات والقوقاز، وصولًا إلى جونغاريا ومنغوليا، كما أنه عاش في قارة أمريكا الشمالية خلال عصر البلستوسين، كما يعتقد الباحثون أن بعض الرعاة الذين لا يزالون يجوبون الهضبة اليوم، يستخدمون هذه الأبنية لذات السبب، حتى يضيقوا الخناق على فريستهم، ليتمكنوا من صيدها والتغذي عليها، إذ تمثل الوسيلة الوحيدة للحصول على الغذاء الكافي، أثناء ترحلهم في المنطقة.

كيف رُصدت القطع الأثرية؟

رصد هذه الأبنية طيارون حربيون، من بريطانيا وفرنسا، في بداية عشرينيات القرن الماضي، وكان ذلك أثناء تحليقهم متجهين إلى الشرق الأوسط، إذ وجدوا سلسلة من المعالم القديمة، على سفوح هضبة أوستيورت، وهي المعالم التي أثارت الكثير من الجدل، واهتمام الباحثين والعلماء، لأكثر من 35 عامًا، نظرًا لمظهرها الجذاب، الأقرب إلى الأقماع، حيث بُنيت من الحجر والطفل (هو طين متجمد على هيئة رقائق بسبب ضغط الصخور عليه)، ويتكون البناء الواحد فيها من صفين أو أكثر، يمتدان بشكلٍ طولي، مثل سهم يلتقي في حفرة دائرية مغلقة.

وبهذا الصدد أُقيم مشروع فرنسي في السنوات الأخيرة، يُسمى «Global kites»، جُمع من خلاله أكثر من 4600 صورة، باستخدام الأقمار الصناعية، لتلك المعالم الصحراوية المنتشرة، في بقاع مختلفة من القطاعين الأوزبكي والكازاخي، من صحراء أوستيورت، بالإضافة إلى بلاد الشام، أرمينيا، اليمن، والمملكة العربية السعودية.

وعلى الرغم من وجود أكثر من 5800، من تلك الأبنية الغامضة، في مختلف المناطق حول العالم، إلا أن المتواجدة في منطقة أوستيورت، لا تزال تمثل لغزًا كبيرًا للعلماء حتى يومنا هذا.

معالم تتحدى الزمن

هضبة أوستيورت

ويعتقد الباحثون أنه رغم تعاقب شتى الحضارات، في تلك المنطقة الوعرة على مدى آلاف السنين، إلا أن تلك المعالم الأثرية ظلت قائمة، تتحدى الزمن والحضارات المختلفة، مما يوضح مدى صلابتها وقوتها.

وهو ما ذكرته الباحثة وعالمة الآثار الأسكتلندية، أليسون بيتس، المتخصصة في دراسة وتحليل الشعوب البدوية، والتي كانت تمر عبر طريق الحرير، وهي مجموعة الطرق المترابطة، التي كانت تسلكها القوافل والسفن عبر جنوب آسيا، إذ أكدت الباحثة أن تلك المنطقة كانت تمثل البقعة المفضلة، للبدو الرحالة، خاصة من العصر الحديدي وحتى بداية القرن العشرين.

‏كما أشارت بيتس إلى احتمالية تعرض تحصينات هضبة أوستيورت، للإغارات والغزو المتكرر عبر القرون المختلفة، حيث استوطنت بعض القبائل منطقة دلتا آنو داريا، التي تصب في بحر آرال، شرق الهضبة، بالإضافة إلى بعض المجموعات التي كانت تتنقل للصيد، خلال العصر البرونزي في الإمبراطورية الفارسية، بين القرنين الخامس والسابع قبل الميلاد، والذين تبعتهم الإمبراطورية المغولية في العصور الوسطى.

محمية طبيعية

هكذا بذل العلماء جهودًا كبيرة، حتى استطاعوا جمع الحقائق المختلفة عن منطقة الهضبة، لتصبح فيما بعد محمية طبيعية، عرفت بمحمية أوستيورت.

وقد تأسست المحمية في عام 1984، والتي تم توسعتها لتضم أيضًا بعض المناطق المجاورة، في تركمانستان وأوزبكستان، بالإضافة إلى احتوائها على ما يقرب من 300 نوع، من النباتات المختلفة، والحيوانات مثل الخنزير البري، وطائر الحبارى، كذلك قنفذ براندت، أو ما يعرف بالقنفذ الأسود، بالإضافة إلى الفهد الفارسي، وهو أندر أنواع الحيوانات التي تعيش في المحمية، والذي شوهد لأول مرة عام 2018، ضمن 3 آخرين فقط، تم رصدها في كازخستان.

هكذا أصبحت محمية هضبة أوستيورت، معلمًا سياحيًا، يتوافد إليه الزوار على مدار السنة، لما تحمله من مظاهر طبيعية جذابة، وآثارًا قديمة، تروي لنا كيف تعاقبت الحضارات على المنطقة، وكيف عاش القدماء حياتهم في تلك المنطقة النائية، واستطاعوا تشكيل المعالم، التي تتطلب تعاونًا جماعيًا، ودراية بيئية واسعة المدى، تؤهلهم للتصميم والبناء بهذه الدقة والاحترافية، واستغلال المنطقة كما ينبغي، «وفقًا لما ذكره باحث المركز الوطني الفرنسي، ريمي كراسار».