التخطي إلى المحتوى

على أطلال الأغالبة والأدارسة وشتات دويلات شمال أفريقيا قامت دولة جديدة في القرن الثالث الهجري، حملت اسم الدولة العُبَيْدِيَّة أو الفاطمية، لتكون بمثابة أول كيان دولة يتوّج جهود أئمة الإسماعيلية التي بدأت منذ منتصف القرن الثاني الهجري بنشر دعوتهم في كثير من أرجاء العالم الإسلامي، لكنها دولة شغلت تاريخ المنطقة لمرحلة قصيرة نسبيًا، فسرعان ما قامت ضدها الثورات المحلية وارتدت عليها سياساتها الهدامة، فضعف نفوذ العبيديين وأُجبروا على الانتقال إلى مصر حيث كانوا على موعد مع انهيار دولتهم على يد القائد صلاح الدين الأيوبي، فلم تقم لهم قائمة بعد وفاة آخر خلفائهم العاضد عبد الله بن يوسف سنة 567هـ. واعتبر العلماء هذا الإنجاز أشرف إنجازات صلاح الدين، أي القضاء على الدولة العبيدية؛ لكونها دولة باطنية وزندقة تدعو إلى مذهب التناسخ وتعتقد حلول الجزء الإلهي في أشباح أصحابها. [1]

وقد تحدث عن فساد الدولة العبيدية جملة من الأئمة والمؤرخين منهم أبو شامة، وابن تغري بردي، وابن تيمية وابن كثير، والذهبي، وغيرهم. وفضحوا فرية النسب الذي تفاخر به العبيديون، حيث قال الذهبي عن أول خلفاء هذه الدولة “عبيد الله المهدي” الذي ادعى بأن نسبه يرجع إلى إسماعيل بن جعفر الصادق بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: “وفي نسب المهدي أقوالٌ: حاصِلُها: أنَّه ليس بهاشميٍّ، ولا فاطميٍّ”. [2]

وكتب عنهم أبو شامة المؤرخ صاحب “الروضتين” كتابًا بعنوان “كشف ما كان عليه بنو عبيد من الكفر والكذب والمكر والكيد”. ومما قاله في وصفهم: “يدَّعون الشرف، ونسبتهُم إلى مجوسي، أو يهودي، حتى اشتهر لهم ذلك، وقيل: “الدولة العلوية” و”الدولة الفاطمية”، وإنما هي “الدولة اليهودية” أو “المجوسية” الملحدة، الباطنية”. [3]

وقال شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله: “العبيديون، وهم ملاحدة في الباطن، أخذوا من مذاهب الفلاسفة والمجوس ما خلطوا به أقوال الرافضة، فصار خيار ما يظهرونه من الإسلام دين الرافضة، وأما في الباطن فملاحدة، شر من اليهود والنصارى… ولهذا قال فيهم العلماء: ظاهر مذهبهم الرفض، وباطنه الكفر المحض، وهم من أشد الناس تعظيمًا للمشاهد، ودعوة الكواكب، ونحو ذلك من دين المشركين، وأبعد الناس عن تعظيم المساجد التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، وآثارهم في القاهرة تدل على ذلك”. [4]

وهكذا كانت سيرة القوم، نشر للزندقة والكفر والإلحاد وسب الصحابة وقتل العلماء فكانت مرحلة اضطهاد وظلم إلى حين.

دولة العبيديين في المغرب

بعد أن استقام حال أهل المغرب الأقصى بأول كيان سياسي اجتماعي عربي مسلم “دولة الأدارسة”، وألفوا الإسلام والعروبة وفق مذهب مالك السني، وأصبحت مدينة فاس كما كانت القيروان حاضرة الإسلام في شمال أفريقيا ومركزًا رئيسيًا للثقافة العربية الإسلامية، دخلت البلاد حقبة شديدة قاسية؛ إنها حقبة الدولة العبيدية (الفاطمية) التي استمرت منذ عام 296 إلى 362هـ (909 – 973م).

ولعل أبلغ وصف لحال الدولة العبيدية ما ذكره صاحب كتاب “معالم تاريخ المغرب والأندلس” الدكتور حسين مؤنس، حيث قال عنها: “كانت تجربة غريبة عن المسار العام للتاريخ المغربي، أو قل هي شجرة غريبة زرعت في أرض المغرب ونمت وارتفعت فروعها في الهواء حينًا، ولكنها لم تضرب جذورًا، ولا أضافت إلى طوائف التجارب السياسية في المغرب شيئًا نابعًا من تربة تلك البلاد، إنما هي كانت بذرة عقيمة مشرقية غريبة عن بلاد المغرب، حملتها أعاصير السياسة والزمان إلى أرض المغرب فكان لها فيه شأن، ثم مضت مخلفة ورائها قلقًا شديدًا ودمارًا بعيد المدى”. [5]

ولعل أكبر ما تركته هذه التجربة من أثر جيد هو بث اللغة العربية وترسيخها بين المغاربة لكون العبيديين كانوا عربًا أقحاحًا.

خصوصية شمال أفريقيا

ومما يجدر الإشارة إليه أن شمال أفريقيا فرضت نفسها فرضًا خلال حكم الأمويين والعباسيين بانضمام أهلها إلى الجيوش الإسلامية الفاتحة وإسهامهم الكبير في فتح الأندلس، فأصبحت بذلك عضوًا أصيلًا في جماعة الإسلام الكبرى، ولكن في ذات الوقت اندس في صفوف أهل المغرب جماعات الخوارج وتأثر تماسك البلاد بثورات أفريقية وصراع العرب والبربر.

فتشكلت على إثر ذلك كيانات سياسية متنوعة ما بين سنية مثل دولة الأدارسة، وخارجية إباضية مثل تجربة بني رستم في تاهرت، أو إباضية صفرية مثل دولة آل مدرار في سجلماسة، أو خارجية دون تحديد مذهب مثل دولة أبي قرة المغيلي الخارجي في نواحي تلمسان، أو دويلات قبلية بمذاهب بعيدة عن الإسلام مثل زنادقة برغواطة. وكان لتفاصيل هذا المشهد أثره البعيد في تمدد العبيديين بين أهل المغرب.

أسباب صعود العبيديين

قام حكم العبيديين في العالم الإسلامي على أركان الفساد الذي تسلل للحكم العباسي، فانتشرت دعوتهم بين الناس مستغلين محبتهم لآل البيت وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم وما نالهم من بطش العباسيين لأجل الملك.

وعلى الرغم من الدخول المدوي للعباسيين في التاريخ وتفانيهم في إقامة دولتهم التي سطرت نجاحات بارزة خلال القرن الأول من عمرها إلا أنه كما جرت السنن مع كل دولة تنحرف عن أصول الحكم الإسلامي، أصابها ما أصابها من العلل والفتن والأزمات بعد أن ارتدت إلى قواعد الحكم الساساني، وانتهت بوضع السلطان في يد الثالوث المدمر الذي قضى على آل ساسان: ثالوث السلطان أو كسرى في ثوب الخليفة، والوزير المدبر لكل شيء باسم السلطان، ثم القوة العسكرية المأجورة بالمال. [6]

ومقابل عجز الدولة العباسية عن إقامة الحكم الصالح الذي يأمن فيه المسلمون، ظهرت وعود العلويين بالإصلاح والتي لقيت قبولًا وأملًا كبيرًا لدى الناس الذين يتعلقون بقشة في مثل هذه الظروف. وهكذا انطلقت دعوة الشيعة في سبيل خدمة إمام مستتر، وانتشر دعاتهم بين الأمصار يستغلون ضعف النفوس، فاجتمع حولهم الناس من كل مكان، حتى دخلت فيهم جماعات من الفرس وغيرهم بآرائها الشاذة والغريبة فنشأت نتيجة ذلك الفرق الشيعية الكثيرة، وعملت إحدى هذه الفرق وهي الشيعة الإسماعيلية أو الإثني عشرية على إقامة دولتهم المنافسة للدولة العباسية “الدولة العبيدية” أو “الفاطمية” نسبة إلى فاطمة رضي الله عنها بنت النبي صلى الله عليه وسلم، وهي منهم براء.

وكانت بداية نشاطهم بتنظيم غريب؛ حيث سارت دعوتهم على أساس أن يبقى الإمام مستترًا في مكان لا يعرفه إلا رئيسهم أو كبير الدعاة وسموه “الوصي”، وهو مدبر الدعوة ومنظمها تحت يده داعي الدعاة ثم الدعاة ثم مراتب أخرى، حتى أخذ الموضوع صورة مؤامرة سرية كبرى هدفها نقل الخلافة من بني العباس إلى آل علي.

كان إمامهم بالفعل مستترًا في حصن آمن يحيط به الحرس ويبعث في نفس الوقت العيون لرصد ما يجري في قصر الخليفة العباسي وبيوت رجال دولته.

أما نظامهم المالي فقائم على جمع الأموال الكثيرة من أنصارهم وكل من آمن بدعوتهم، حيث فرضت عليهم الزكاة للإمام، وكان جزء من هذا المال يذهب لتأمين إمامهم من مطاردة العباسيين والباقي كان يكدّس حتى قيل إن الإمام عبيد الله المهدي الذي كان من المقرر أن يشغل منصب أول خلفائهم في المغرب كان يملك أموالًا طائلة جعلها في سراديب تحت الأرض.

وهكذا باستغلال مشاعر السخط العام كلما زاد أمر الدولة العباسية سوءًا ازدادت دعوة الإسماعيليين قوةً، حتى أصبح عالم الإسلام خلال النصف الثاني من القرن الثالث الهجري شبكة سرية واسعة، نشأ عنها ما سماه بعض المؤرخين بأكبر مؤامرة في التاريخ.

لماذا كانت البداية من المغرب؟

الدولة العبيدية

لقد كانت يد العباسيين قوية في مصر والشام والعراق وخراسان، لذلك اتجهت أنظار قادة التنظيم الشيعي إلى البحث عن بلد بعيد عن هيمنة العباسيين تستطيع أن تنمو في داخله دولتهم. وكانت الأنظار بداية تتطلع إلى اليمن، إلا أنها فكرة تم تجاهلها بسبب وعورة الأرض فيها وصعوبة المسالك فضلًا عن بعدها الشاسع عن قلب الدولة، ثم إن أهل اليمن كانوا حينها مفرقين شيعًا وأحزابًا وعصائب متعادية، وكان من شبه المستحيل أن تجتمع قواعد اليمن الكبرى وهي صعدة وصنعاء وتعز وزبيد وجند على رأي واحد لا في سياسة ولا في غيرها مما جعل فكرة الانطلاق من هذه البلاد مرفوضة.

مع ذلك نشط رجال الدعوة الإسماعيلية في اليمن باعتبارها مهدًا أمنيًا يسمح لتنظيمهم بالبحث عن الرجال الذين سيقومون على إيجاد القوة العسكرية اللازمة لقيام أي دولة.

شهر بن حوشب

برز شهر بن حوشب في أوائل القرن الرابع الهجري بعدما تحولت وصاية التنظيم إليه؛ لكونه الرجل الذكي الذي يمكنه أن يحقق طموحات الإسماعيليين، وانطلق بدوره يخطط لتحقيق ذلك الحلم مستعينًا بأموال رجل فارسي كاره للعرب يسمى “دندان”.

استقر شهر بن حوشب في اليمن، واتخذ منطقة عدن “لاعة” مركزًا لأعماله. ومن هناك كان يبصر في المغرب الساحة الأنسب لانطلاق مشروعهم، حيث تمتد مساحة شاسعة غربي نهر شلف إلى المحيط، مستقلة عن سلطان الدولة العباسية، كما أنه يمكنه الاستعانة بتجربة شعوب البربر في إقامة دولة مثلما نجح في ذلك الأدارسة والرستمية، من هنا انتدب لهذه المهمة أفضل دعاته ذكاءً ودهاءً، هما: سفيان والحلواني.

سفيان والحلواني

بعد عملية الرصد والاستطلاع انطلق الرجلان إلى منطقة يسكنها حلف القبائل البرنسية المسمى بكتامة، وكانت هذه القبائل حلفًا قويًا متماسكًا، يسكن المناطق الجبلية الوعرة المتاخمة لبلاد العباسيين من ناحية الغرب، في منطقة القبائل غربي مدينة الجزائر، يمتدون جنوبًا في جبال الأوراس، فلا يفصل منازلهم عن بلاد بني الأغلب إلا مجرى نهر شلف. لقد كان الكتاميون قبيلًا ضخمًا من البربر البرانس أصحاب عدد وقوة وإيمان وتطلع إلى السلطان وهو ما يحتاج إليه الإسماعيليون.

عمل كل من سفيان والحلواني بجد ومكر على إعداد النفوس لقبول الدخول في الحركة الِشيعية وإقامة دولة لرجل يرتضيه الناس من أهل البيت، لكن مع كل ما بذله الرجلان، لم يتيسر لهما أكثر من تحقيق الحرث الدعوي، واحتاجت مهمتهما إلى من ينثر بذور الدعوة في الأرض المحروثة لإخراج القوة العسكرية الضاربة في الأرض وتحقيق التمكين، وكان ذلك دور أبي عبد الله الشيعي.

أبو عبد الله الشيعي

اختار شهر بن حوشب أبا عبد الله الشيعي لميزات في شخصيته؛ أبرزها الذكاء والدهاء، كما كان صاحب حيلة وإحاطة كبيرة بالفقه الشيعي وغير الشيعي، فأوكل له مهمة إقامة دولتهم في المغرب، وكانت بدايته بإظهار السلوك الحسن والالتزام الديني، حتى استمال القلوب إليه فأصبح شيخ قبيلة “سكتاتة”، وأصلح أمرها وحرّض رجالها على الإغارة في حدود الأغالبة، ثم لكونها قبيلة ضعيفة لا تلبي طموحاته توجه إلى قاعدة وسط جبال الأوراس، وعند مداخلها من الشمال منطقة تسمى “تازروت” أسس لنفسه فيها قاعدة استقطبت بشكل سريع الأنصار، فعمل على تحصين المنطقة وفرض الجباية على أهلها، لكنه كان ذكيًا يمهد لأهدافه بعيدة المدى، حيث سلّم إدارة المال لشيوخ كتامة، فآمن به الناس ووثقوا به وصدقوا وعوده في إقامة دولة عادلة هم سادتها. واستولى بعد ذلك على بلاد الأغالبة، وبهذه الأموال موّل سلسلة من الحملات فلقي من الغنائم الشيء الكثير مما أشعل الحماسة في أتباعه، وكان هذا أواسط أيام إبراهيم بن أحمد الأغلبي.

تحول أبو عبد الله الشيعي إلى قائد سياسي عسكري، استطاع خلال فترة وجيزة من الاستيلاء على بلاد الزاب كلها، ودخلت قواته بلاد أفريقيا فتزعزع بنيان بني الأغلب، وكان الناس في سخط كبير من آخر ملوك الأغالبة “زيادة الله الثالث” قاتل أبيه، فأقبلوا على دعوة الشيعي فرارًا من واقعهم الأليم وفر الأغلبي الأخير إلى مصر.

قيام الدولة العبيدية



ما لبثت أن سقطت القيروان في يد أبي عبد الله الشيعي في عام 296هـ (909م)، فدخلها منتصرًا وأعلن قيام الدولة العبيدية فيها، وبعث جيشًا لجلب الإمام المستتر في “سلمية”؛ وهو عبيد الله المهدي أول خلفاء الدولة العبيدية. ويجدر الإشارة إلى أن أبا عبد الله في بداية أمره أخفى دعوته الشيعية وسار في الناس سيرة حسنة، حيث دارت مجالس مشهورة بين زعماء المالكية وخاصة أبي عثمان سعيد بن الحداد وأبي عبد الله الشيعي ودعاة المذهب، واكتشف أبو عبد الله أنه لن يهزم المالكيين، فأضمر المكر.

قدوم عبيد الله المهدي

كان عبيد الله المهدي يعيش في قرية سلمية في سعة، ويعتز إلى حد ما بالقرامطة وهم فريق من دعاة الشيعة تزعمهم رجل يسمى أبو سعيد الجنابي، وكان القرامطة ودعاة الفاطمية أحلافًا يتآزرون على الدولة العباسية.

ويذكر أن عبيد الله المهدي بعد وصوله إلى مصر في ركب من أتباعه وأحمال من أمواله أحس بتحركات رجال العباسيين، وبعد أن وصل برقة استعمل الحيلة وهرب منهم ووصل إلى سجلماسة بمساعدة المشرفين على الركب، فخاف منه صاحب سجلماسة من بني اليسع بن مدرار الخارجي الصفاري، فسجنه. وغالبًا لم يكن سجنًا بل تحفظًا أو تحوطًا. ولما بلغ الخبر أبا عبد الله الشيعي، جمع جيشًا ضخمًا من القيروان إلى سجلماسة عام 297هـ (910م)، وتمكن من تخليص عبيد الله والقضاء على صاحب سجلماسة، وبويع عبيد الله ببيعة عامة في نفس المكان، وسلمه أبو عبد الله الأمر كجندي عنده، ليصبح المغرب الأوسط إلى تلمسان جزءًا من الدولة العبيدية.

ويكفي أن نعلم عن هذا الخليفة ما قاله حين أعلن الرسالة وأحضر فقيهين من فقهاء القيروان ليشهدا عليها وهو جالس على كرسي ملكه، حيث أوعز إلى أحد خدمه فقال للشيخين: أتشهدان أن هذا رسول الله؟ فقالا: والله لو جاءنا هذا والشمس عن يمينه والقمر عن يساره يقولان: إنه رسول الله: ما قلنا ذلك، فأمر بذبحهما. [7]

وقال أبو الحسن القابسي صاحب “الملخص” عنه: “إن الذين قتلهم عبيد الله وبنوه: أربعة آلاف في دار النحر في العذاب، مِن عالِم، وعابِد؛ ليردَّهم عن الترضي عن الصحابة”. [8]

خلافة عبيد الله المهدي (ربيع الآخر 297 – ربيع الأول 322هـ) (910 – 934م)

بعد مبايعة عبيد الله المهدي انتهت ولاية أبي عبد الله الشيعي التي دامت عشر سنوات منذ عام 288 إلى 297هـ، ليتحول إلى وزير وخادم لهذا الخليفة. لكن بداية عبيد الله كانت مضطربة حيث دبّ الشك في قلوب الكتاميين لأسلوبه الجشع ومستوى تفكيره المقلق، فقد استولى على الأموال التي جمعوها، ولم يكترث بمشاورة أحد فيها، وكان أبو عبد الله الشيعي يشاركهم حالة الاستياء العامة، لكنه كان يكتم في قلبه بينما لم يتمكن أخوه العباس المخطوم من الكتمان فساءت علاقتهما مع الخليفة، ولجأ عبيد الله للغدر، واستعان برجل من كبار الكتاميين هو غزوية بن يوسف في قتل أبي عبد الله الشيعي وأخيه أبي العباس، وتلك كانت حلقة من سلسلة من الاغتيالات والغدرات درج عليها خلفاء العبيديين في بلاد المغرب.

بناء المهدية

الدولة العبيدية

مشهد من مدينة المهدية في تونس اليوم التي بنتها الدولة العبيدية.

أحس عبيد الله المهدي أن الناس لديها الاستعداد لقبول فكرة خلافة على مبادئ الشيعة الإسماعيلية كما صاغها دعاتها ومفكروها أثناء فترة الاستتار، فطمع في استغلال ذلك، لكنه شعر بالوحشة بينه وبين الكتاميين، فلم يلبث أن دبر مقتل غزوية بن يوسف، وتطلع إلى الاستعانة بغيرهم. ثم شيّد لنفسه وأسرته قلعة يعتصم فيها وجنده وأمواله، وكانت “المهدية” سنة 305هـ (917م)؛ وهي الحصن المنيع على رأس بارز في الساحل الشرقي لتونس شمال سوسة.

ذكرها أبو عبيد البكري في كتاب “المغرب في ذكر بلاد أفريقية والمغرب” [9] على أن البر يحيط بها من ثلاث جهات، وأن المهدي اتخذ لهذه المدينة بابين من الحديد زنة كل باب منهما ألف قنطار وطوله ثلاثون شبرًا، ونقش على هذين البابين صور بعض الحيوانات وأقيم بها ثلاثة وستون صهريجًا عدا ما كان يجري فيها من القنوات. كما بنى فيها أيضًا دارًا للصناعة تسع أكثر من مائتي مركب، وفرض قوانين صارمة على البلدة، وبدأ يحكمها من حصنه المغلق. وجعل ثقته في جنده المرتزقة، الذين استكثر منهم واعتز بهم من ذلك الصقالبة والخصيان لخدمة القصر.

وقد كتب عن هذه الحقبة اثنان من الصقالبة العبيديين في المغرب هما منصور العزيز والأستاذ جوذر مذكرات في غاية القيمة التاريخية، تكشف عن طبيعة الحياة في ذلك الزمان، والتي لم تكن حياة سعيدة ولا نافعة، إذ كان جلّ هم قادة العبيديين حماية أنفسهم واستغلال البلاد التي صارت إليهم على أسوأ صورة. ففقد عبيد الله ثقة الناس فيه بل أصبحت صورته بغيضة بشعة تتجلى في رواية شعبية ذكرها ابن عذارى تصور عذاب الخليفة العبيدي في أخريات أيامه ثم عذابه في الآخرة.

التحالف مع الصنهاجيين

بعد مقتل أبي عبد الله الشيعي وأخيه، وغدر عبيد الله بغزوية بن يوسف، خاف الخليفة العبيدي من الكتاميين، فطمع في ولاء قبائل أخرى مجاورة كانت تحسد الكتاميين؛ هم صناهجة المغرب الأوسط، وكان يتزعمهم مصالة بن حبوس، فأغراه بالمال وسلطه على المغرب وبعثه في جيش كبير يغزو المغربين الأوسط والأقصى، فملك الرعب سكان المنطقة، حتى أن منهم من فزع إلى الأمويين في الأندلس واستجار بهم، ووصلت جيوش مصالة بن حبوس إلى المغرب الأقصى ودخلت فاس أيام يحيى الثالث الإدريسي، وكان مصالة قد ولى على فاس رجلًا من أقاربه يسمى موسى بن أبي العافية، وأذن للأدارسة بالبقاء تحت حكم العبيديين لكن ابن أبي العافية نفى بقايا الأدارسة إلى قلعة حجر النسر شمال المغرب في جبال الريف قرب مدينة تسمى بصرة المغرب. فتجمع الأدارسة هناك وارتبطوا بالناس وتآلفوا في مجتمع منسجم، فكانت بداية دور جديد للأدارسة بعد سقوط دولتهم.

التفكير في التمدد

حكم عبيد الله المهدي خمسًا وعشرين سنة هجرية ثبّت أثناءها قواعد بيته في أفريقيا والمغرب الأوسط بالقوة العسكرية وجمع مالًا كثيرًا، وبسبب سيرته القبيحة أبغضه فقهاء المالكية وأنكروا أساليبه، وأحس هو بذلك، فقرر التخفيف من الدعوى للشيعية، مع ذلك بقي التوتر غالبًا على البلاد، فحفّز ذلك عبيد الله على التفكير في غزو بلد آخر والاستيلاء عليه فكانت مصر في مرمى أهدافه، وبالفعل أرسل إليها حملة بقيادة ابنه القائم، فهاجم الإسكندرية وخربت بعض نواحيها لكنه لم يتمكن من السيطرة على البلاد حيث قطع طريق أطماعه الموت، وخلفه ثلاثة من الخلفاء عملوا في سبيل تحقيق أهدافه.

القائم أبو القاسم محمد (14 ربيع الأول 322 – 13 شوال 334هـ) (934 – 946م)

كان القائم أقرب الخلفاء العبيديين إلى العدل وحسن السياسة بالمقارنة مع أبيه، وقد حاول التقرب من الناس مع شعوره بالعزلة والغربة في المغرب ولكن بلا جدوى، لذلك ركّز جهوده على مغازاة المغربين الأوسط والأقصى، وسجل التاريخ وقائع طويل لقائده “ميسور” مع جند الأمويين والأدارسة مما اضطر عبد الرحمن الناصر إلى السيطرة على سبتة ومليلة لتأمين بلاده من أنصار العبيديين؛ من أمثال بلكين بن زيرى بن مناد؛ الزعيم الصنهاجي الذي استماله العبيديون فأخلص في خدمتهم. وكذلك لجأ بقية أهل المغرب الأقصى إلى الأمويين الأندلسيين الذين لم يدّخروا جهدًا ولا مالًا في مناجزة العبيديين وإبعادهم عن المغرب.

كل ذلك كان يذهب باتجاه اقتناع العبيديين بضرورة الاتجاه نحو مصر وكانت آنذاك تحت حكم كافور الإخشيدي، الذي كان يصانع العبيديين حينًا ويناجزهم حينًا آخر.

المنصور أبو الطاهر إسماعيل (13 شوال 334 – 29 شوال 341هـ) (946 – 953م)

خلف الخليفة القائم ابنه المنصور أبو طاهر، فانفجرت في أيامه ثورة أهل أفريقيا والمغرب يقودها رجل من نكارية الإباضية يسمى أبو يزيد مخلد بن كيداد ويلقب بـِ “صاحب الحمار”؛ لأنه كان يركب حمارًا بمظهر الزهاد يتنقل به بين الجبال والقبائل.

كان بداية أمره معلم صبيان قضى في هذه المهنة معظم عمره، لكن حالة السخط على العبيديين كانت تزداد في كل يوم مما شجعه على قيادة الثورة ضدهم على الرغم من أنه كان مسنًا، فقد بدأت الثورة وعمره يقارب السبعين، إلا أنه لقي تفاعلًا كبيرًا ومساندة شديدة، كل ذلك لأنه لم يكشف عن نحلته الإباضية النكارية، وشغل الناس كثائر للعدالة والإسلام وكراهة فساد العبيديين، وتم له الأمر وحقق مبتغاه باجتياح بلاد العبيديين حتى أنه ألجأ المنصور العبيدي إلى التخفي في المهدية وحاصره فيها.

لكن حركته كانت بدون خطة واستراتيجية، فبعد أن وصل هذه المرحلة من النصر أساء التعامل مع القبائل التي كانت تسانده فتفرق الناس من حوله وضعف، فانتهز الفرصة الخليفة العبيدي وأرسل إلى بلكين بن زيري بن مناد الصنهاجي ليقضي مع رجاله على “صاحب الحمار”، فطاردوه حتى قتلوه وسلخوا جلده وحشوه -فيما يقول الرواة- قطنًا، ثم أركبوا جثته على حمار طاف بلاد أفريقيا.

وانتهت ثورة صاحب الحمار لكن انتهت معها قوى العبيديين في المغرب، فقد تزعزعت قواعد دولتهم وخاف المنصور من سيطرة الصنهاجيين الأقوياء، فارتد إلى الكتاميين بعد طول انصراف عنهم وأذى لهم، وبقي حاله كذلك إلى أن توفي. فخلفه ابنه المعز والذي على خطى عبيد الله، كان يرى باب الخلاص الوحيد الباقي أمامه غزو مصر والانتقال إليها. وهو ما حققه الخليفة العبيدي الرابع أبو تميم معد، الملقب بالمعز لدين الله الذي تولى الملك شابًا في ذي القعدة سنة 341هـ (953م).

المعز أبو تميم معد

حكم المعز المغرب من مستهل ذي القعدة 341هـ (953م)، حتى انتقل إلى مصر سنة 362هـ (972م)، ثم توفي فيها في ربيع الآخر سنة 365هـ ( 975م).

غزو الدولة العبيدية لمصر ثم الانتقال إليها

الدولة العبيدية

يرى المؤرخون المعز أقدر خلفاء العبيديين وأبعدهم نظرًا، فقد درس خطواته جيدًا للاستيلاء على مصر بعد أن رأى كيف رمى أهل المغرب دولته عن قوس واحدة، وأيقن تمام اليقين أن السيطرة على المغرب الأوسط نهايتها الفشل، خاصة مع استقواء آل بلكين بن زيري الصنهاجيين وغلبتهم فيها، بينما شهد المغرب الأقصى صعود الأمويين الأندلسيين أيام حكم المستنصر الذي خلف أباه عبد الرحمن الناصر لدين الله سنة 350هـ (961م)، وكان الأندلسيون يرون العبيديين مرتدين عن الإسلام وحربهم جهاد، لذلك كرّسوا الجانب الأكبر من قواهم في حربهم في المغرب وخاض خيرة جندهم المعارك الضارية حتى تمكنوا من طردهم من المغرب الأقصى وأتموا عملهم بالقضاء على أنصارهم والتقارب مع الأدارسة.

وساعد المعز -كثيرًا- شاب ذكي من دهاة صقالبة العبيديين؛ اسمه “جوهر” ويلقب بـِ “الصقلي”، كان قائدًا ماهرًا وجنديًا مخلصًا، صاحب سياسة ونظر وتدبير، غزا المغرب كله إلى المحيط، ودخل مرة أخرى إلى فاس وغزا بلاد تافيلالت، ثم عاد ليبلغ سيده ألا أمل في مغرب أفريقيا وأن الأمل الباقي الوحيد هو الاستيلاء على مصر.

تقييم التجربة العبيدية في تاريخ المغرب

دامت دولة العبيديين في المغرب نيفًا وستين سنة هجرية من 297 إلى 362هـ (909 إلى 973م)، دانت لهم خلالها بلاد واسعة تمتد من طرابلس إلى منتصف المغرب الأوسط، فلم يخرج عن سلطانهم إلا تلمسان. ودخلت خلال هذه الفترة قبائل مغربية غنية بالملكات والطاقات والقدرات شكلت قاعدة ملكهم.

لكن بالمقابل مع ما قدمه أهل المغرب لم يقدم العبيديون أي خدمة لرعيتهم تستحق الإشادة! فلم يعمروا المدن إلا المهدية، باعتبارها قاعدتهم الخاصة، ولم يتركوا خلفهم أثرًا في القيروان ولا تونس وسوسة والحمامات والمنستير وغيرها.

كما غلبت على سياساتهم الجشع المالي فتسابق القادة على جمع الأموال الطائلة بالظلم والتحايل، قسم منها يذهب لدفع تكاليف الجند من أجل شن مزيد من الغزوات لحصد الغنائم، ولم يظهروا أي نية في زيادة عمران المغرب، لا على مستوى شق الطرقات ولا إنشاء الأسواق ولا حتى ازدهار القبائل المخلصة لهم على رأسها كتامة التي استنفدت قواها في قضيتهم. ولعل هذا ما يفسر سبب تبرؤ بقايا الكتاميين في العصور التالية من تهمة القيام بالدعوة العبيدية.

ومن مخلفات السياسة العبيدية في المغرب إذكاء نيران العصبيات القبلية فاشتعلت بينها حروب إبادة حتى أن من زعماء البربر من هرب إلى الأندلس للنجاة بأنفسهم من صراع القبلية في المغرب، وبعد انسحاب العبيديين لمصر تركوا آل زيري غارقين في ثارات القبلية مما عجل بزوال ملكهم، وانتهى أمر المغرب إلى سلطان قبيلتين من أعتى قبائل الزناتيين وأكثرهم فسادًا؛ هما مغراوة وبنو يفرن، ولولا أن تدارك الله المغرب بالمرابطين فالموحدين، لكان من الصعب تصور استقرار هذه البلاد بالنظر لدرجة الإفساد التي دأب عليها العبيديون، والتي تعد أيضًا من أكبر أسباب ضعف الدولة الإسلامية في الأندلس.

وإن كان هناك من إنجاز يذكر للعبيديين في المغرب فهو نشاطهم البحري، حيث كانت أساطيلهم تسيطر بالفعل على مياه المتوسط لكن قوتهم البحرية لم تظهر بكامل قوتها إلا خلال الفترة المصيرية من تاريخهم ثم ما لبثت أن تلاشت.

أحوال مصر قبل سيطرة العبيديين

كانت مصر قد ودعت ملكها كافور الإخشيدي وانتهى أمر الإخشيديين بوفاته، في تلك الأثناء كان المعز وقائده يعدان العدة لغزو مصر معتمدين في ذلك -مرة أخرى- على الكتاميين بعد أن صالحوهم، حيث دخل في خدمتهم رجل من خيرة قواد جوهر الصقلي، يدعى “جعفر بن فلاح”.

لم يكن من العسير على جوهر الاستيلاء على مصر، فقد وضع المعز تحت تصرفه كل ما كان لدى العبيديين والكتاميين من قوة وأموال، وتحقق لهم ذلك بدخول المعز إلى الإسكندرية في شعبان سنة 362هـ (973م).

ومع دخوله إلى مصر في 7 رمضان سنة 362هـ ومع ما يحمله من ثقل التجربة والدروس من المغرب، أعلن الخليفة العبيدي في بيان رسمي تخليه عن فرض المذهب الشيعي على أهل مصر، ثم أحسن معاملة الناس ووعدهم بالخير الكثير والعدل الشامل، فأظهروا الطاعة له، ليبدأ عصر جديد في مصر؛ هو العصر العبيدي.

تأسيس مدينة القاهرة والجامع الأزهر

الدولة العبيدية

وضع جوهر أساس مدينة القاهرة، فكانت مدينة ملوكية وحصنًا للعبيديين، وكانت هذه الخطة التي ينتقل بها العبيديون في كل بلاد، ينشئون لهم مركزًا، كما رأينا مع قلعة المهدية والآن قلعة القاهرة، والسبب في ذلك خشية العبيديين من تداعيات سياساتهم الاستفزازية وانقلاب الناس عليهم.

وشرع جوهر في بناء القاهرة شمالي الفسطاط في ليلة 17 شعبان سنة 358هـ ووضع في الليلة التالية أساس القصر الذي بناه للخليفة العبيدي، وعُرف هذا القصر باسم “القصر الشرقي الكبير”، ثم أقام حول تلك المدينة وقصر الخليفة سورًا كبيرًا.

أطلق جوهر اسم “المنصورية” على المدينة؛ تقربًا إلى خليفته المعز بهدف إحياء ذكرى والده المنصور. وبقيت تعرف بذلك حتى قدم الخليفة العبيدي إليها بعد أربع سنوات فسماها القاهرة [10]، على أمل أن تقهر الدولة العباسية المنافسة، وقيل أيضًا لتقهر من شذّ منها.

ثم شرع جوهر ببناء جامع الأزهر في الرابع من شهر رمضان سنة 359هـ (790م)، واستغرق بناؤه سنتين، سماه بداية “جامع القاهرة” ثم أخذ اسم “الأزهر” في عصر العزيز بعد إنشاء القصور العبيدية التي حملت اسم “القصور الزاهرة”، وكان الأزهر المركز الديني لخلفاء العبيديين والدعوة الإسماعيلية.

وتزامنًا مع هذا البناء، منع جوهر اللباس الأسود -شعار العباسيين- وزاد في الخطبة عباراتهم الدخيلة، وكذلك في الأذان (حي على خير العمل) وفرح باستجابة الناس للمذهب الشيعي، طمعًا في تحسن أوضاعهم المعيشية.

الاصطدام لابد منه

استلم المعز الحكم بينما بقي جوهر يشرف على إدارة الدواوين وجباية الخراج حتى عام 363هـ، حيث تسلمها المعز كاملة، فاستأثر بالنفوذ والحكم ثم قام بتهميش جوهر تدريجيًا حتى أفقده نفوذه.

وأما عن حال أهل السنة في مصر، فقد عانوا كثيرًا من سياسات العبيديين، فبعد أن عملوا بكتاب الأمان الذي التزم به جوهر الصقلي والذي يتضمن إطلاق الحرية للمصريين في مذهبهم السني، تركز اهتمام الخليفة العبيدي إلى تحويل المصريين إلى المذهب الشيعي، وفي سبيل ذلك، استعمل كل الأساليب الماكرة؛ منها إسناد المناصب العليا وخاصة القضاء إلى الشيعيين، واتخاذ المساجد الكبيرة مراكز للدعاية للمذهب الإسماعيلي، فتحول مسجد عمرو بن العاص، ومسجد أحمد بن طولون، وجامع الأزهر، إلى مراكز تدعو لدعوته الخبيثة، وكان يقوم بقيادة هذه الجهود أحد كبار دعاتهم في مذهب الشيعة، وتزامن هذا النشر لمذهبهم تعمد العبيديين إظهار شعائرهم المخالفة لشعائر أهل السنة؛ كالأذان والاحتفال بالعاشر من المحرم، وعيد “الغدير” المعروف بـِ “غدير خم” في اليوم الثامن عشر من ذي الحجة، مما تسبب في حوادث اصطدام عنيفة بين أهل مصر والعبيديين، منها ما حصل في الاحتفال بعيد “غدير خم” في 18 ذي الحجة سنة 362هـ حيث قام المغاربة بثورة عارمة قمعها جوهر.

وكان الشيعة يعتدون على من لا يشاركهم مظاهر الأسى والحزن حتى تعدى الأمر إلى التضييقات على أهل السنة في حياتهم، ومنع صلاة الضحى والتراويح، كل هذا والبلاد تسير وفق أحكام المذهب الإسماعيلي الذي أصبح شرطًا لتولي المناصب المهمة والوظائف في الدولة العبيدية، فتشيّع العديد من السنيين لأجل الوظيفة. [11]

وإن تباينت هذه السياسة في عصر الظاهر والمستنصر وبقية الخلفاء العبيديين، إلا أنها بلغت ذروة القبح لما استلم بدر الجمالي الوزارة وذلك في أواخر عهد المستنصر، وكان مغاليًا في مذهبه فأظهر العداء الشديد لأهل السنة، وفرض مذهبه ونقش -لعنه الله- عبارات تتضمن لعن الصحابة رضي الله عنهم على الجدران.

إعلان الخليفة العبيدي الألوهية

ومما يجدر ذكره في تاريخ الدولة العبيدية إعلان خليفتها الحاكم بأمر الله ألوهيته، وكان قد تولى الخلافة بعد أبيه سنة 386هـ، وله من العمر إحدى عشرة سنة ونصف سنة، فقام بالوصاية عليه “برجوان الصقلبي” الذي ما لبث أن استبد بالسلطة، لكن الخليفة العبيدي الداهية انتبه لذلك، وانقلب عليه وتخلص منه واستعاد سلطته. واشتهر عصر الحاكم بتعليق المصابيح في الأسواق والمحال، فصارت البلاد تشهد الحركة ليلًا كما في النهار.

ومما يروى عنه أنه كان شديدًا في كل قراراته، من ذلك منعه النساء من الخروج بعد صلاة العشاء ثم منعهن من الخروج إلى الأسواق والحمامات، ثم حظر عليهن التطلع من نوافذ البيوت والوقوف فوق أسطح المنازل، وبلغ من حرصه أن منع صانعي الأحذية من صنع أخفاف النساء؛ كي يتعذر عليهن الخروج، وبالفعل أثر كل ذلك في حركتهن. [12]

وكان صارمًا مع من يخالف أوامره، وما أسهل ما كان يتخلص من معارضيه. وإن كان يظهر مظهر الزاهد في الدنيا إلا أنه كان شديد الاهتمام برصد النجوم والتطلع لمعرفة الغيب، وأغدق على المنجمين لأجل ذلك.

وقد تأثر بوفد من الدعاة قادم من بلاد فارس، كان أبرزهم حمزة بن علي الزوزني، وحسن بن حيدرة الفرغاني المعروف بالأخرم، ومحمد بن إسماعيل البخاري الدرزي. فعملوا في عام 405هـ على نشر دعوة تأليه الحاكم، ثم جهروا بها في عام 408هـ، فاجتمع حوله جماعة من الإسماعيلية.

ولما ضاق أهل مصر ذرعًا بالدرزي، ساعده الخليفة في الفرار إلى الشام فنزل بقرى بانياس، ونشر دعوته في تأليه الحاكم، واستمال الكثير من الأنصار هناك، لتبدأ قصة طائفة الدرزية. [13]

وأما الخليفة فانقلب على المصريين وانتقم منهم مستخدمًا الجنود السودانيين الذين نكلوا بمن رفض دعوة الألوهية، ثم هدأت الأمور وطيّب خاطر الأعيان. وتوفي الخليفة الزنديق إلا أنه اختلف في طريقة وفاته بحسب المؤرخين.

الدولة العبيدية في طريق الانهيار

استلم الخليفة الظاهر لإعزاز دين الله الخلافة العبيدية وبعد مضي ثلاثة أعوام من وفاة والده أعلن براءته من دعوى الألوهية التي كان ينادي بها. وسار العبيديون على طريقة العباسيين في الاعتماد على غير أبناء جنسهم فأصبح جيشهم في عهد المعز يتألف من قبائل كتامة وزويلة وبعض طوائف البربر والصقالبة. واستخدم العزيز الديلم والأتراك ثم السودانيين، ومال الخليفة للاستكثار من الأتراك فضعف شأن الكتاميين.

وفي عام 462هـ بلغ الخليفة العبيدي أن ناصر الدولة العباسي قد استدعى الأمير السلجوقي ألب أرسلان إلى الديار المصرية، فجهز جيشًا من الأتراك لمحاربته بالبحيرة، وأوقع بهم ناصر الدولة العباسي الهزيمة وغنم منهم كثيرًا وأقام خطبة للعباسيين في الإسكندرية ودمياط وجميع أنحاء الوجه البحري وحاصر مصر والقاهرة. لكن الحكم عاد للعبيديين بينما كان يعاني أهل مصر ضيق العيش.

الأزمة المعيشية في مصر

كان حماس العبيديين لمذهبهم الشيعي يخف عندما يتسبب في استثارة الناس لكنه كان حاضرًا في عمق كل مشهد، إضافة إلى جشعهم في السياسات المالية الذي استمر حتى قضى على معظم صناعات مصر التقليدية القديمة خاصة صناعة النسيج، ولا يزال التاريخ يسجل الصراع مع الفلاحين والعبيديين في مصر الذي أدى في النهاية إلى ما يعرف بالشدة المستنصرية [14]، وهي أعنف وأقسى أزمة اقتصادية عرفها تاريخ الإسلام في المنطقة، تسببت فيها السياسة المالية الأشد جشعًا التي اشتهر بها العبيديون. ومن ملامح هذه السياسة حرصهم على الاحتفاظ بولاية صقلية مع علمهم أنهم لن يحموها، ولولا أن تداركها بنو الحسن الكلبيين منذ عام 341هـ (952م) لانتهى أمرها بعد استيلاء العبيديين على مصر بزمن بقليل.

عصر نفوذ الوزراء العبيديين

أخذ نفوذ الوزراء العبيديين في الازدياد منذ أواخر عهد المستنصر بالله، واستبد بدر الجمالي بالحكم في هذه الحقبة ثم مهّد لابنه باستلام مقاليد أمور الدولة. ولما توفي في عام 487هـ خلفه ابنه الأفضل شاهنشاه في الوزارة، وظل المستنصر في عهده كالمحجور عليه إلى أن توفي في نفس العام.

وظهر استبداد الأفضل في487هـ عند تعيين خليفة جديد غير الذي عهد إليه المستنصر بالله، حيث كان يريد تولية ابنه نزار، إلا أن الوزير الأفضل قام بتولية الابن الثاني الصغير؛ وهو الأمير أبا القاسم أحمد الملقب بالمستعلي بالله، وكانت أمه ابنة بدر الجمال وأخت الأفضل.

ولم يكن حدث إقصاء نزار بلا تداعيات كبيرة، فقد أدى إلى ظهور فريق من الناس يتشيع له بمصر، بل دعا إلى إمامته بعض أهالي بلاد الفرس من الإسماعيلية الذين كانوا يدعون إلى انتقال الإمامة من جعفر الصادق إلى ابنه إسماعيل وبنيه من بعده.

وتجلت قوة طائفة الإسماعيلية في بلدة ساوة بين الري وهمذان في أيام السلطان ملكشاه السلجوقي، واستمر نفوذهم في الازدياد في عهد زعيمهم أحمد بن عبد الله بن عطاش. وكان من تلاميذه الحسن بن الصباح، الذي تقلد رئاسة الدعوة الإسماعيلية في أصبهان، ثم رحل إلى مصر حيث تعمق في دراسة المذهب الإسماعيلي وكان مع تعيين نزار في الخلافة، وأدت هذه المعارضة لتعيين أحمد بدل نزار في الخلافة إلى أن يكيد بدر الجمالي لحسن الصباح حتى تخلص منه وأخرجه من مصر، فذهب الأخير إلى سواحل الشام، ثم إلى أصبهان وبدأ بالدعوة إلى إمامة المستنصر وابنه نزار وكانت نشأة النزارية.

وبذل الحسن بن الصباح جهده في كتابة المؤلفات التي تثبت صحة إمامة نزار وبطلان إمامة المستعلي بالله. وفي هذه الأثناء استبد الأفضل بن بدر الجمالي بالحكم، ودخلت البلاد عهد نفوذ الوزراء، وصار وزير السيف كما قال المقريزي هو سلطان مصر وصاحب الحل والعقد وإليه الحكم في الكافة من الأمراء والأجناد والقضاة والكتاب وسائر الرعية، وهو الذي يولي المناصب الديوانية والدينية. [15]

زوال الدولة العبيدية

تطور التنافس على الوزارة في مصر في العصر العبيدي إلى أن استعان بعض الطامعين في الحكم بأمراء الدول المجاورة، وتطورت الأمور إلى أن انفرد شاور الذي كان واليًا على الصعيد بالسلطة بعد تخلصه من الوزير العادل بن طلائع بن رزيك في المحرم من سنة 558هـ.

غير أن ضرغام -أحد قواد الجيش- ما لبث أن ثار عليه وتقلد الوزارة، فاضطر شاور إلى الالتجاء لنور الدين محمود صاحب دمشق؛ ليمده بقوة يستعين بها على استعادة نفوذه، ووعده بأن يتنازل له في المقابل عن ثلث خراج مصر إن ساعده في انتزاع الوزارة من ضرغام، وإن كان نور الدين قد تردد بادئ الأمر إلا أنه ما لبث أن قبل عرضه وأعانه بحملة أسند قيادتها إلى أسد الدين شيركوه، وكما خطط له، وصلت حملته إلى القاهرة وتصدت لضرغام وانتصرت عليه فحقق شاور أمنيته وأعيد إلى منصبه في الوزارة في عام 559هـ.

لكن شاور انقلب على نور الدين بعدها وأخلف وعده الذي قطعه له بل بعث إلى أماريك؛ ملك بيت المقدس، يحرضه على نور الدين وضرورة التصدي له قبل أن يتمكن من حكم الديار المصرية، فأرسل الملك الصليبي جيشًا أرغم شيركوه على العودة بجنده إلى الشام.

لكن نور الدين أرسل حملة ثانية إلى مصر في عام 562هـ بقيادة أسد الدين شيركوه حيث كان صلاح الدين الأيوبي ممن اشترك فيها. فاستنجد شاور بالصليبيين، والتقى الفريقان في معركة بالبابين (على مقربة من المنيا) ونصر الله شيركوه، فواصل المسير مباشرة إلى الإسكندرية ودخلها من غير مقاومة ثم عين ابن أخيه صلاح الدين واليًا عليها.

وكل هذا والخليفة العاضد العبيدي ليس له من الأمر شيء، ثم بعد سلسلة أحداث أصبح أسد الدين شيركوه صاحب السلطان الفعلي في البلاد وكان قد أنهى عهد شاور، وبقي ما يقرب من ثلاثة أشهر في الوزارة قبل أن توافيه المنية، فقرر العاضد تولية صلاح الدين في منصبه.

وبدأت مرحلة عمل صلاح الدين في استمالة قلوب الناس إليه، وتقوية مركزه في مصر تزامنًا مع ضعف سلطة العاضد، كما تمكن من صد المؤامرات عليه التي شهدت الاستعانة بالصليبيين عليه، فكان ما كان من بطولات صلاح الدين، الذي وجه اهتمامه إلى القضاء على المذهب الشيعي في مصر، فأخذ هذا المذهب الخبيث في التلاشي تدريجيًا حتى لم يبق له أي أنصار في مصر. وكان لسياسة صلاح الدين في إضعاف المذهب الإسماعيلي أثرها في زوال الدولة العبيدية.

توفي العاضد في عام 567هـ، وقبيل وفاته كان قد أسقط اسمه من الخطبة، وذكر اسم الخليفة العباسي بدلًا منه، وقيل إن هذا تحديدًا ما تسبب في مرضه ووفاته. وبموته سقطت الدولة العبيدية واستمرت الخلافة العباسية على ما أصابها من ضعف وانحلال.

وفي الواقع فإن الدولة العبيدية لم تلبث أن واجهت الكثير من الصعاب سواء في مصر أو في أقطار الشرق الإسلامي التي امتد نفوذها إليها، لذلك تعذر عليها الاحتفاظ بسيادتها على المغرب، وظلت الخطبة تقام للعباسيين في هذه البلاد حتى قامت دولة الموحدين في أوائل القرن السادس الهجري.

خلفاء الدولة العبيدية

توالى على حكم الدولة العبيدية 14 خليفة، أغلبهم في مصر:

  • أولهم المهدي عبيد الله الذي حكم لمدة 25 سنة.
  • ثم خلفه القائم بأمر الله محمد الذي حكم لمدة 12 سنة.
  • ثم المنصور بنصر الله إسماعيل الذي حكم لمدة 7 سنوات.
  • ثم المعز لدين الله معد الذي حكم لمدة 24 سنة.
  • ثم العزيز بالله نزار بن معد الذي حكم لمدة 21 سنة، وهو من أبرز خلفاء العبيديين، كان له الفضل في إرساء حكمهم بعد السيطرة على الشام ومصر.
  • ثم الحاكم بأمر الله منصور بن نزار، مدعي الألوهية، والذي حكم لمدة 25 سنة.
  • ثم الظاهر لإعزاز دين الله علي بن منصور الذي حكم لمدة 16 سنة.
  • ثم المستنصر بالله معد الذي حكم لمدة 60 سنة، وفي عصره تقلص حكم العبيديين على مصر فقط، وحصل النزاع بينه وبين أمه فانقسم الجند بينهما. ومع نهاية عصره أصبح الحكم الحقيقي للدولة بيد الوزراء إلى غاية انهيارها.
  • ثم المستعلي بأحكام الله أحمد بن معد لمدة 8 سنوات.
  • ثم الآمر بأحكام الله منصور بن أحمد لمدة 29 سنة.
  • ثم الحافظ لدين الله الذي حكم لمدة 20 سنة.
  •  ثم الظافر بأمر الله إسماعيل لمدة 5 سنوات.
  •  ثم الفائز بنصر الله عيسى لمدة 6 سنوات وتوفي وعمره 11 سنة.
  •  ثم آخرهم العاضد لدين الله عبد الله لمدة 12 سنة.

الخاتمة

تميزت مرحلة العبيديين في مصر باضطرابات جمة، قد اتخذت خلالها الحياة الاجتماعية عدة مظاهر، فبلغ الترف والبذخ أقصاه في بلاط الخلفاء والوزراء بينما انشغل الناس بدفع الضرائب ومدافعة أفكار الإسماعيليين، فعلى الرغم من سطوة السلطان الضال، كان الحنين للمذهب السني متجذرًا في قلوب المصريين كما كان حال إخوانهم في المغرب.

ورغم هذه التجربة المريرة في تاريخ شمال أفريقيا، بقي هذا الجزء من العالم الإسلامي عربيًا إسلاميًا صامدًا يثبت ذلك ما سنراه من تفاصيل أحداثه مع دول المرابطين والموحدين والمرينيين التي أعقبت سقوط دولة العبيديين.

2