في عام 1991، حققت المجرية «جوديت بولغار» أول ألقابها في لعبة الشطرنج بعمر الـ11 عامًا فقط، بعدما تغلبّت على أحد أساتذة اللعبة، لتصبح بذلك أصغر لاعبة تحصل على لقب «جراند ماستر»، كاسرة بذلك رقم بطل العالم السابق «بوبي فيشر»، ومنهية هيمنة الرجال على اللعبة.
الطفلة المعجزة
بدأت جوديت اللعب في البطولات في سن السادسة، وبحلول سن التاسعة كان تصنيفها مع الاتحاد المجري للشطرنج هو 2080، بل وكانت عضوًا في نادٍ للشطرنج في بودابست، حيث اكتسبت خبرة من لاعبي المستوى الرئيسي.
في أبريل 1986، لعبت جوديت بولغار البالغة من العمر آنذاك 9 سنوات في أول بطولة لها في الولايات المتحدة، حيث احتلت المركز الأول في القسم غير المصنف من بطولة نيويورك المفتوحة، وفازت بـ1000 دولار أمريكي، حيث استحوذت على اهتمام كل المشاركين بالبطولة.
وفي أواخر عام 1986، تلقت جوديت هزيمة على يد أحد أساتذة اللعبة «إدمار مدنس» الذي قال عن مواجهته لها إنه لعب أفضل مباراة له في البطولة بفوزه على جوديت، واسترسل قائلًا: «لقد كنت حريصًا في تلك المباراة، لا يحب كبار السن أن يخسروا أمام فتيات يبلغن من العمر 10 سنوات، لأننا بذلك قد نصبح هدفًا سهلًا للصحف المحلية».
في أكتوبر 1988، وفي ظل نتائجها الرائعة، تمكنت من الوفاء بمتطلبات المشاركة في بطولة الجراند ماسترز، وفي ذلك الوقت، زعم بطل العالم «ميخائيل تال»، أن الفتاة التي تبلغ من العمر 14 عامًا، تمتلك القدرة على الفوز ببطولة العالم للرجال.
جوديت بولغار.. كيف تصنع المعجزة؟
في الواقع، امتلكت «جوديت بولغار» مسيرة احترافية رائعة، جعلتها تصل عند اعتزالها اللعب تمامًا للمركز الـ8 في التصنيف العالمي للاعبي الشطرنج، قبل أن تتحول بعام 2014 لتصبح مدربةً لفريق الرجال المجري للشطرنج، ومدرّسة لتعليم أساسيات اللعبة، وتعلق على مباريات الشطرنج الكُبرى، إضافة لتطويرها برنامجًا خاصا بها لتعليم اللعبة التي كرّست حياتها لها.
وبغض النظر عن هذه المسيرة، ربما يجب أن نسلط الضوء على الطريق الذي سلكته بولغار لتنمية موهبتها، والسؤال حول ما إذا كان الشطرنج الذي يعتمد بشكل رئيسي على الذكاء، يمكن تعلّمه وفقًا لمنهج ثابت، أم أن القصة برمتها تتمحور حول الموهبة الفطرية؟
كان الأمر مختلفًا تمامًا في عائلة بولغار، حيث تم تشجيع جوديت وشقيقتيها الكبريين «سوسوزا» و«زوفيا» بشكل مكثف على اللعب من قبل والدهن منذ سن مبكرة.
حيث كان «لازلو بولغار»، أستاذ علم النفس، مقتنعًا بأنه يمتلك طريقة يمكن أن تجعل من كل طفل معجزة بشكل منفرد، حيث قام مبدئيًا بتعليم بناته في المنزل، رافضًا نظام المدارس الحكومية.
درست الفتيات الثلاث الشطرنج بشكل مكثف، لأن والدهن اعتقد أن قياس الذكاء يمكن أن يتم بشكل أفضل من خلال تعلم هذه اللعبة.
بالنسبة لـ«جوديت» وشقيقاتها، كان هذا يعني 7 ساعات من لعب الشطرنج يوميًا، وعددا قليلا من الأصدقاء، لكن طبقًا لبولغار لم تكن هذه مشكلة كبيرة، حيث صرّحت أن شقيقاتها والأطفال القلائل الذين عرفتهم من لعب الشطرنج كانوا «أصدقائها الحقيقيين» وكانوا كافين جدًا بالنسبة لها.
طريقة لازلو
هذه الطريقة، التي أطلق عليها الوالد اسم «تجربته» التربوية والتي يُفضل تسميتها «أسلوب حياة خاص»، كانت ناجحة على أي حال، حيث أصبحت جوديت بولغار وأخواتها لاعبات شطرنج ناجحات دوليًا.
«لم أستطع الوصول إلى هذا الحد إلا بفضل توقعات ودعم والدي، الذي غض النظر عن كوني فتاة، إلا أنني لا أتوقع مواصلة هذه التجربة على أولادي».
تعتقد جوديت بولغار أن الشطرنج يلعب دورًا مهمًا في تعليم الطفل، لذلك، طورت كتابين دراسيين وبرنامجًا تدريبيًا لأطفال ما قبل المدرسة والتعليم الابتدائي، حيث يمكنهم من خلال الشطرنج أن يتعلموا مهارات للحياة مثل الإبداع والتفكير المنطقي والمسؤولية وكذلك الرياضيات والقراءة. لكن الأهم؛ دون أي تمييز بين الفتيان والفتيات.
وبالفعل، حصل البرنامج على اعتراف رسمي، وهو الآن جزء من المنهج الوطني للمدرسة الابتدائية المجرية، ويتوقع أن تقام أولمبياد الشطرنج في بودابست عام 2024، التي ستنافس على حصد ميداليتها الذهبية، إحدى الفتيات اللاتي أشرفت جوديت على تدريبهن، والتي تحتل المرتبة الأولى في العالم في فئة أقل من 14 عامًا.
لأنها تكره التمييز
بذكر رفض التمييز بين الفتيان والفتيات داخل أكاديميتها، ينبع هذا التوجّه الذي تتبعه جوديت بولغار إلى كل ما مرّت به خلال مسيرتها من محاولات التمييز من الرجال، الذين لطالما أصرّوا على عدم قدرة النساء على مقارعة الرجال في لعبة الشطرنج.
«في الحياة الواقعية، يصعب على السيدات التفوق في مثل هذه البيئة، حيث إن الخصوم الذكور غالبًا لا يستطيعون الاعتراف بأنهم خسروا أمام امرأة، ويصرون على الحط من قيمة انتصاراتها بعبارات مثل «مستوى جيد بالنسبة لفتاة»، بل يصل الأمر أحيانًا لمغادرة مقر إقامة المباراة دون مصافحة كما هو معتاد».
ترسّخت مثل هذه المفاهيم في عقول البعض منذ وقت طويل، فمثلًا؛ في السبعينيات، زعم معجزة الشطرنج الأمريكي بوبي فيشر أنه يعتقد أن النساء «ضعيفات» و«غبيات»، بالتالي لا يمكنهن ممارسة الشطرنج.
بينما قال جاري كاسباروف، بطل العالم الروسي في الشطرنج في عام 1989، إن النساء بطبيعتهن لسن لاعبات شطرنج استثنائيات، قبل أن يتراجع عن تصريحاته لاحقًا.
في النهاية، وحتى لا ندفن رؤوسنا في الرمال، لا تزال هذه الآراء والمفاهيم منتشرة حتى الآن، في حين تعتقد جوديت بولغار أنها محض هراء، ببساطة لأنها استطاعت خلال مسيرتها الحافلة أن تقهر العديد من الرجال بهذه اللعبة، بالتالي تستطيع أخريات فعل نفس ما فعلته المجرية. لكنها في نفس الوقت ترى بأن الفارق الفني إن وجد، فهو يرجع لسبب واحد؛ وهو تشجيع الفتيان على ممارسة اللعبة في سن مبكرة عن الفتيات.