التخطي إلى المحتوى

وقفة مع البحث العلمي

 

بسم الله، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده؛ أما بعد:

فلقد أصبح الحكمُ على الهيئات والمؤسسات والشركات بما تقدمه من إنتاج يفيد المجتمع، ويجعلها تتنافس في سوق الاستثمار، والإنتاج العالمي.

 

وكانت الجامعات التي تريد أن تثبت وجودها في السابق على أرض الواقع تسعى لأن تمتلك أدنى مقومات البحث العلمي، ولقد أخَّرتها تلك النظرة عن مجال التطور؛ نتيجة للرؤية المتواضعة لديها عن أهمية البحث العلمي في مجالات الحياة.

 

واهتزت صورة البحث العلمي، والنتيجة المرجوة من ورائه في إخراج باحثين يعملون على نهضة الأمة وتقدُّمها.

وجاء التهميش المتعمد للبحث العلمي من بعض الحكومات، والمؤسسات المعنية به، فأصاب الأبحاث العلمية في الفترة الماضية بوعكة شديدة، وأصبحت تحتاج إلى طبيب وعلاج.

 

ويذهب البعض لحصر البحث العلمي في نطاق ضيق، فيصطدم طلابه بواقع مرير عندما يبلغون مرحلة الرشد في إعداد الأبحاث العلمية كالماجستير والدكتوراه.

 

وينظر البعض إلى مؤسسته، فينأى بها عن الخوض في تلك التجارب، والتنافس في تلك الغايات.

 

لقد أثبت ديننا أن العطاء والتقدم الذي يدفع بالأمة إلى قيادة العالم في كل المجالات لا ينظر لحجمه بقدر ما ينظر لدوره، ولمكانته في التغيير والإنتاج، فقد خرجت دار الأرقم قادة قادوا الأمم لقرون طويلة، وبسط الله عز وجل الرحمة في الكهف الضيق للفتية الذين أرادوا إقامة التوحيد، فجعلهم الله آية لما بذلوا الجهد في الدعوة، وعلم الله صدقَ نيَّتهم، وأقبل زيد بن ثابت رضي الله عنه على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو في الحادية عشرة من عمره، فأمره أن يتعلم لغة يهود، فأتقنها في نصف شهر؛ (فتح الباري: 13 /186)، وكان من كُتَّاب الوحى، وكان يكتب إلى الملوك، وتعلم الفارسية، والرومية، والحبشية؛ (تجارب الأمم، ابن مسكويه: 1 /274).

 

إن الخيار الذي أمامنا هو السعي الجاد في تفعيل البحث العلمي في جامعاتنا على نحو يعود على طلابنا بالتميز، وعلى أمتنا بالتقدم والازدهار.

 

لقد أصبح البعض من طلاب الجامعات يقضون ليلة على المواقع الإلكترونية يجمعون ما يسمونه بالبحث العلمي، وتعلُّقهم بالمادة يدور حول ما قاموا به من معلومات تتبخر بعد ساعات، وكفى.

 

ويردد البعض – عبارات لا محل لها من الإعراب – نريد التخفيف على الطلاب في الأبحاث، فهل الأبحاث بهذه الصورة تسمى أبحاثًا؟ ﴿ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ[الصافات: 154].

 

وإذا جاء الطالب يعد بحثًا معتمدًا يجد نفسه في واقع مخيف بالنسبة له؛ لأنه لم يتدرب، ولم يخض غمار البحث العلمي في السابق.

 

ولا يخفى على أولي النهى أن التقييم لأبحاث الطلاب سيراعي كون البحث الذي قدمه الطالب بحثًا تجريبيًّا، أو بحثًا معتمدًا، وتختلف المراحل التعليمية، ودرجة الأبحاث العلمية في كل مرحلة؛ سعيًا للوصول بطلاب الجامعات إلى مرحلة متقدمة في البحث العلمي.

 

وإننا إذ نتكلم عن التقدم، فالتقدم الذي نسعى لتحقيقه لأمتنا يختلف عن الذي ترجوه الأمم المادية، وأصحاب النظريات الفلسفية لأقوامهم، فأمتنا تسعى للتخلص من رق التبعية، وضعف الإنتاج، إلى الوصول إلى أعلى درجات الرشد في البحث العلمي، وطرق التنوير، والتطوير في الإنتاج في كل المجالات.

 

وأنا أعترف أن الأفكار التي تطرح لتناقش قضية ما، ليست نصًّا مُسلَّمًا، ولا قرارات استبدادية، بل هي أفكار قابلة للتجديد والتطوير، وإعادة الصياغة؛ لتصل في نهايتها إلى هدفها المنشود.

 

وجدير بالذكر أن نطرق الباب على عناوين الأبحاث العلمية التي هي من أهم ما يجب أن تحمله الأبحاث العلمية كون العنوان يحمل مشكلة واقعية، ويحاول حلها، أو يعرضها، ثم يبيِّن ضررها، أو دورها في قلة أو زيادة ما يتعلق بالمشكلة الأساسية، أو استخلاص لتجارب، أو معطيات سابقة، وأوجه المقارنة بينها وبين ما يعالجه الباحث، أو التحذير من قضية ما، ومخاطرها على الأمن أو الفرد أو المجتمع في التخصص الذي يكتب فيه الباحث، أو فاعلية لبرنامج ما في تنمية أمر ما… إلخ، ولا يخفى على أُولي النهى أهمية التنقيب عن المشكلات – وليس عرضها فقط – وإيجاد الحلول الناجعة لها، والوصول إلى ابتكارات، ونتائج متميزة من أبحاثنا؛ لتسهم في تقدم أمتنا في جميع المجالات.

 

ويذهب المتخصصون في البحث العلمي إلى أن العنوان يحمل في مضمونه المادة العلمية للبحث، وهناك فارق بدهي بين التخصصات المختلفة في المفردات والإشكاليات والنتائج.

 

وخلاصة القول: إن البحث العلمي هو الذي يضع المؤسسات والجامعات والأمم في طريق الإنتاج والمنافسة والتقدم، وما تشهده البشرية اليوم من أنظمة رقمية وتكنولوجية، وتنافس في جميع المجالات يحتم على أمتنا، وعلى القائمين على قراراتها أن يغيِّروا طريقة التعامل مع البحث العلمي، وتهميش دوره؛ لنصل إلى معارج التنافس والتقدم لأمتنا لقيادة البشرية في كل المجالات، والوصول بها لتحقيق مقولة ربعي بن عامر رضي الله عنه: “إن الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله – عز وجل – ومن ضيق الدنيا إلى سَعتها، ومن جَور الأديان إلى عدل الإسلام”؛ (تاريخ الطبري:3 /520)، وهذا الأمر تقع المسؤولية فيه على الجميع.

 

أسأل الله عز وجل أن يجعل الإخلاص مهيمنًا على أقوالنا وأعمالنا.

وصلِّ اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.