التخطي إلى المحتوى

في عام 1917، اعتبرت عشرات الفتيات الأمريكيان الوطنيات أنفسهن محظوظات، لأنهن حصلن على عمل حربي في مجمع مستودعات كبير في نيو جيرسي، وعرفن لاحقًا باسم «فتيات الراديوم»، فما هي قصتهن؟

فتيات الحرب

في تلك الفترة، كانت الحرب العالمية الأولى قد وصلت ذروتها بالفعل، لذلك اضطرت بعض البلدان التي اشتركت في الحرب إلى تجنيد الرجال القادرين على القتال، ما منح النساء والفتيات فرصةً مثاليةً لاقتحام سوق العمل.

أحد تلك الأمثلة، كان تمكن العشرات من الفتيات من العمل مقابل أجرٍ مجزٍ جدًا بأحد مصانع الطلاء بولاية نيو جيرسي الأمريكية، وكان عملهن يدور حول إضافة طلاء متوهجٍ على أسطح الساعات المعلقة وساعات اليد التي تنتجها إحدى الشركات الأمريكية (Radi­um Company).

أثناء تأدية الفتيات عملهن، وبمجرد وضع طبقة رقيقة من الطلاء الأبيض، مشربة بعنصر الراديوم المكتشف حديثًا على «موانئ الساعات»، كانت أيديهن تتوهج بشكل غريب، وهو بالتأكيد ما أثار استغرابهن.

دون أي استثناء، تم إقناع جميع «فتيات الراديوم» أنّ التعامل مع هذا الطلاء لا يتطلّب اتخاذ أية إجراءاتٍ احترازية، على الرغم من ارتداء الرجال أقنعة واقية ضد أي خطر محتمل قد يتسبب فيه العنصر المشع في وقتٍ سابق.

تكنولوجيا الطلاء المشبع بالراديوم

بيير وماري كوري.

على الرغم من نجاح الثنائي بيير وماري كوري في تحديد عنصر الراديوم عام 1898، والبدء في استخدامه بعد عزل عينات منه في عام 1910، كانت تكنولوجيا الطلاء المشبع بالراديوم اختراعًا ثوريًا عام 1917.

على الفور، أدرك الزوجان أن اكتشافهما خطير؛ حيث أصابت ماري نفسها بعدة حروق مزعجة عندما تعاملت مع الراديوم بشكل غير صحيح، بينما قال بيير ذات مرة، إنه لا يستطيع تحمل فكرة البقاء في غرفة بها كيلوغرام واحد من الراديوم؛ لأنه كان يخشى أن يصيبه بالعمى.

وحتى تدرك السياق التاريخي لحادثة «فتيات الراديوم» التي نحن بصدد قصّها، يمكننا أولًا إخبارك أنّه خلال مطلع القرن الـ20، شرب مئات الآلاف من الناس ماء منشطا مملوءا بالراديوم، وغسلوا أسنانهم بمعجون أسنان راديوم، واستخدموا مستحضرات تجميل راديوم؛ طمعًا في الحصول على بشرة وأسنان متوهجة وبيضاء.

وبالعودة لقصة مصنع طلاء الساعات، كانت الفكرة الإعجازية آنذاك، أنّه يمكن بعد خلط الطلاء بنسبة معينة من الراديوم أن تتوهّج أسطح الساعات، التي تمتص الطاقة أثناء ساعات النهار، وتظل مضيئة أثناء ساعات الليل. وهذا ما اعتبر آنذاك مشروعًا شديد التفاؤل.

فرحة لم تتم

على الرغم من ثورية الفكرة أعلاه، اتضح مع مرور الوقت أنّ مخاطر الراديوم أكبر من الفائدة التي قد يقدمها، حيث ثبت علميًا أنّ التعرُّض لجرعات صغيرة من الإشعاع الناتج عن الراديوم لن يكون ضارًا بالفعل، لكن عندما يتم وضع الراديوم بجوار الخلايا البشرية أو في مجرى الدم، فقد يتحول إلى مدفع رشاش مجهري يستقر في أنسجة الجسم، ثم يطلق الراديوم جسيمًا بعد جسيم من مسافة قريبة جدًا، وفي النهاية، يقتل الخلايا من حوله.

لا مبالاة

فتيات الراديوم

كان الرجال يرتدون مآزر الرصاص لحمايتهم من تأثير الإشعاع التراكمي، بينما تم حث الفتيات على طلاء موانئ الساعات بألسنتهن، كي يتسنى لهن التأكُّد من طلاء أدق مساحات الساعات.

كان السبب الذي قدمته الشركة لهذا الاختلاف في التعامل مع الراديوم، هو أن المهندسين الذكور كانوا يتعاملون مع حزم ضخمة من المواد الخام، بينما لم تتعرض الفتيات سوى لكميات صغيرة.

لسنوات عديدة بعد ذلك، قامت فتيات الراديوم بطلاء ساعات وأقراص عسكرية ومدنية، باستخدام ألسنتهن بلا مبالاة كما لو كانوا يتعاملون مع أي طلاء عادي، لكن المثير هو إعجاب الفتيات بهذا التوهُّج الذي حظيت به بشرتهن وملابسهن بسبب الإشعاع، حيث وجدنه أمرًا ممتعًا وأنيقًا.

ظل الأمر كذلك لعدة سنوات، وبما أنّ الأجر الذي تحصلت عليه الفتيات كان عظيمًا مقارنةً بمتوسط الأجور خلال هذه الفترة، حثت الفتيات أقاربهن على الانخراط في هذه المهنة «غير المتعبة»، حتى وصل عدد العاملات في المصنع لنحو 300 فتاة.

ماذا حدث لـ«فتيات الراديوم»؟

فتيات الراديوم
مولي ماجيا، فتاة الراديوم.

في يناير من عام 1922، أصيبت فتاة الراديوم «مولي ماجيا» بألم شديد في الأسنان، وعندما ذهبت إلى طبيب الأسنان، لخلع أحد ضروسها، كانت المفاجأة عدم التئام الجرح الناتج عن خلع الضرس، إضافة لإصابتها بنزيف بأسنانها، وظهور القيح بفمها.

بحلول شهر مايو من نفس العام، اعتقد الطبيب أن مولي بحاجة لعملية جراحية لإزالة خراج وجده في فكها، وعندما فتح اللثة، لم يبدُ العظم على ما يرام، لذلك قام بضغطها بإصبعه برفق، ليفاجأ بانهيار عظام فمها، كما الرماد في المدفأة، حسب تعبيره.

في ذلك الصيف، انهار ما تبقى من فك مولي، متبوعًا بأجزاء من أذنها الداخلية، وبحلول سبتمبر من عام 1922، بعد 8 أشهر من ألم أسنانها الأول، ماتت مولي ماجيا، حيث قطعت الأورام وريدها الوداجي وغمرت حلقها بالدم، وخنقتها في الفراش حتى الموت.

بطبيعة الحال، لم تكن مولي الفتاة الوحيدة التي عانت أعراضا مرضية خلال نفس الفترة، حيث عانت العديد من فتيات الراديوم أعراضا غريبة؛ مثل انهيار عظام العمود الفقري، سرطان الجلد وتساقط الأسنان والشعر.

ومع ذلك، لم يعتبر الراديوم متهمًا رئيسيًا في وفاة مولي وغيرها من الفتيات، حيث أرجعت الشركة السبب في هذه الحالات لإصابتها بمرض الزهري، تجنبًا للعقوبات التي قد تتعرض لها، بعد رفع فتيات الراديوم دعاوى قضائية ضدها.

كشف الحقيقة

فتيات الراديوم

في عام 1924، أثبتت إحدى الدراسات المستقلة ضلوع عنصر الراديوم المشع في وفاة بعض الفتيات وإصابة البعض الآخر بتشوهات خطيرة، وكما كان متوقعًا، تم إعادة فتح قضية الفتيات المتوفيات والمصابات، وأثبت بما لا يدع مجالًا للشك أن تعرضهن لعنصر مشع كان السبب في هذه الحادثة، ما اقتضى دفع الشركة لتعويضات لأسرهن، ومصاريف علاج الباقيات على قيد الحياة، إضافة لتكاليف المحاكمة.

في النهاية؛ ربما كانت تجربة فتيات الراديوم مرعبةً لهن، حيث فقد البعض منهن الحياة، وعاش البعض الآخر مع مضاعفات لا يمكن تحملها، لكن على الجانب الآخر، ألهمت هذه القصة المتخصصين منذ مطلع الثلاثينيات لضرورة البحث حول كيفية اتخاذ الإجراءات الوقائية اللازمة عند التعامل مع العناصر المشعة مثل الراديوم، اليورانيوم والبلاتينيوم.

بعد عقود من قصة فتيات الراديوم، عزت لجنة الطاقة الذرية الأمريكية الفضل لمساعدتها على وضع بروتوكولات المناولة والسلامة ‑التي تحافظ على سلامة الآلاف من العمال حول العالم- إلى فتبات الراديوم، وإلى البحث والخبرة المكتسبة في هذا المصنع، والتي أدت إلى إنقاذ حياة الملايين فيما بعد.

المصدر:
طالع الموضوع الأصلي من هنا