الكاتب | مبارك بوالزيت |
لم يترك عبد الرحمن الكواكبي وفرانتز فانون الكثير ليقال عن اغـــتراب الإنسان الخارج من حقبة الاستعمــار وما تلاها من نكبات. ويكاد هذا الإنسان يكون كينونة مستعصية على الفهم لأنه لازال يقبع في ذيل العالم يجرُّ ويلاته. يورد عبد الرحمن الكواكبي سببا مباشرا، إذ يقول أن “من أقبح أنواع الاستبداد استبداد الجهل على العِلم، واستبداد النفس على العقل، ويسمى استبداد المرء على نفسه، وذلك أن الله جلت نعمه خلق الإنسان حرا قائده العقل، ففكر وأبى إلا أن يكون عبدا قائده الجهل.” (راجع الصفحة 273 من كتابه طبائع الإستبداد).
إن التنظير لما يجب أن تكون عليه الأمور في بلاد ما بعد الاستعمار يكاد يكون غير مجدي لاعتبارات كثيرة. أو لها أن كلمة المثقف ناذرا ما تصل إلى أو لئك الذين تهمُّهم فتبقى رهينة الرفوف والصالونات. وفي أحيان كثيرة يعتبرها من دنت بهم المدارك طوبأوية أو مستحيلة لجهل فيهم أو فتور. من نكد الدهر أنه حتى عندما يجتمع مفكر فذ مع رئيس محتمل لحل اغتراب إنسان ما بعد الاستعمار فحتى هذه الصدفة النادرة لن تجدي نفعا ربما: ألم يكن رئيس الجزائر عبد العزيز بوتفليقة سكرتيرا للدكتور فرانتز فانون وعضوا في جبهة التحرير؟ ماذا طبَّقَ من فلسفته وفكره؟ لازال الجزائريون يتدافعون في صفوف على علبة حليب وقِس عليهم أغلب المغاربيين حين يركضون وراء مصالح بسيطة. الحاصل ربما أن تنظيم المجتمع في المناحي المختلفة منفصل انفصالا حادا عن منتجات الفكر والعلم. وهذا النمو المطرد مردُّه ربما إلى أن إنسان ما بعد الاستعمار يعيد أخطاء كل تجربة ولا يستفيد من تراكمها. والأمم لا تنمو بتكرار الأخطاء وإنما باتقاء شرها.
وحتى إن تقمَّصت دولة ما بعد الاستعمار ليبرالية لفضية في المذكرات والمراسلات ونشرات الأخبار فهي على الأرض تحصد أرقاما مخيفة يزيد معها ضنك الفرد وحَنقه. والظاهر أن السلسلة التي تنقل التعليمات تتكسَّر في مكان ما، حيت تستبد النفس على العقل ربما، وحتى وإن كانت السلسلة من ذهب فحلقة واحدة مكسورة كهذه ستؤدي إلى عكس المطلوب. بنية مجتمع ما بعد الاستعمار هذه المبنية على نوبات التعليمات لا الإشراك، قد تؤدي إلى عكس المطلوب حين لا يملك معها الموظف أو العامل أو رئيس المصلحة أن يضيف لها ويزيل انطلاقا من تراكم تجربتِه ودرايته، فتصبح العملية كلها كقبعة الساحر السوداء تخرج منها أرانب بيضاء.
أما تكهُّنات الماركسية التي كانت أمل مجموع المغتربين فهي على ما يبدوا وبال على العامل ونعمة على رب العمل، لأنه بقدر ما تخبر العامل عن وعيه المزيف، تمنح لرب العمل سُبلاً أفضل للبطش. وتبقى النظرية رابحة على كل الحال لأن طرحها يكاد يكون مطلقا: إذا انتفض العمال فهذا هو المراد وإن لم يفعلوا فهم يعيشون وعياً مزيفاً—فتصبح النظرية هي الأخرى شرطية ووسيلة اغتراب لا انعتاق.
الإنسان المغترب يعرف بِعلامات نفسية غريبة. إنه متنمر لكن على أولئك الذين يقبعون تحته، أما من فوقه فيتدلَّل لهم ويخفض لهم جناح الذل. هذه سِمة كبرى لنفسية المغترب في بلاد ما بعد الاستعمار، وتكاد تكون بنية راسخة في المجتمعات المغتربة الخارجة من هذه المحنة وما تلاها. إن الإنسان الخارج من هذه الحقبة أمره صعب غاية الصعوبة. لا يكون الدكتور خالص جلبي مغاليا حين يقول انه يخرج من بطن أمه مقوَّس الظهر وهو لم يبلغ بعد أرذل العمر. ليس له إلا أن ترتعد فرائصه من أجل لقمة العيش كما في قصة سيزيف. أما حين يُفرض عليه زيارة مؤسسة لِحق فيستعيد بالله من الشيطان الرجيم؛ تتسارع دقات قلبه ويصفر وجهه ويبلع لسانه خوفا من ساعات الانتظار ومن جرات القلم.
في هذا الإنسان ثلاث عوالم لو ربطت تمام الربط لقللت من تبعات هذا الاغتراب.1) أو لها عالم الأفكار الخاصة بالفرد وقد أسميتها في مقال سابق بالأفكار القبلية: صحيح أن الرغبة في الأكل فكرة قبلية فطرية لكن الطفل الصغير لا يأكل إلا حين يتحرك الشيء المأكول أمامه عينيه فيرنوا إليه. ومنه وجب الاستكشاف على الاستكانة إلى كل ما هو قبلي 2) على حساب العالم الخارجي بكل قوانينه وتفاصيله 3) ثالث هذه العوالم هو عالم النظريات الفلسفية والعلمية (وكل فِكر مفيد) الموجهة لبوصلة الفرد أو النفس في رحلتها في هذا العالم. تضيع بوصلة الفرد ويغترب حين يستكين لأفكاره الخاصة دائما فيعيش بالظن أو الهوى أو تأثيرات ثقافة المحيط المحدودة وحين يبني معرفته للعالم على الملاحظة الساذجة. عالم النظريات هذا يعتبر بمثابة الموجه، وهذا منطق التنوير. من ارتقوا في مداركهم وتفوقوا غالبا ما خرجوا من عالم الاستيهامات الذاتية المحدودة إلى عالم التجريب والتخطيء والنظريات العلمية والأفكار المستنيرة.
وقعت الكارثة في إنسان ما بعد الاستعمار حين استكان إلى نظريات محدودة بكلمات محدودة تحد النظر والفهم، لأنه وكما يقول الدكتور كارل بوبر، “عن طريق النظريات نتعلم الملاحظة، ونتعلم طرق طرح السؤال الذي يقود إلى ملاحظات جديدة وتأو يلات جديدة (ترجمتي). (ص. 365 من كتابه التفنيدات والتخمينات) فرجل الدين المتشدد يتكلم ليحرِّم، ويمنع وينصح ويخيف بالمهلَكة والموت، ولا يرى غير هذا الأفق في أحيان كثيرة. فيكون الفرد مغتربا مكلوما يحتاج إلى من يأخذ بيده فيأتي الواعظ يلومه فيزيد عليه من همِّه. يكاد هذا الإكثار من النصح يكون ضنكا على المتلقي الذي تهمه سبل العيش والتقدم والرفاه. الشرف عند الواعظ، لقبه عبد الله العروي كذلك بالمثقف الشيخ، يَكون في عورة المرأة فقط وفي طقوس تَزيغ عن القيم الحقيقة كالتفكر والسير في الأرض والنظر والإبداع. هذا يذكرنا بمفارقة محمد عبدو الذي وجد في نفسه أفضل ممثل لقيم الدين لكن في مجتمع مصري متعثر، لكنه بالمقابل صُدم بمُجتمع غربي متقدم مُبتعد عن الدين نسبيا. يصبح المفكر مع هذه المفارقة بين أمرين أحلاهما مر، يُصبح تقدميا عقلانيا حين يخاطب الغرب وسِلبيا اعتذاريا حين يخاطب بني جلدته.
الدكتور فرانتز فانون أكثر إفادة في أمر الاغتراب، لأنه درس سيكولوجية إنسان ما بعد الاستعمار وعايش أمراضه العقلية وعقده النفسية والتي لم يستطع معها للأسف إلا أن يقدم إسقالته سنة 1965 بعدما لم يجد الآذان الصاغية والدعم الكافي لمزأولة عمله، فترك رسالة حزينة ورحل عن الجزائر إلى غير رجعة. هذه الشخصية متشظية، يورِد الدكتور فانون في كتابه الإغتراب والحرية، بين عصى الاستعمار الطويلة ومجتمع لا يُقدم الكثير. مشاكل إنسان ما بعد الاستعمار كثيرة على أن تُعد كما أشار الدكتور فانون كذلك في نهاية كتابه المعذبون في الأرض، والقارئ لا بد يستشعر غضب الدكتور فانون مما آلت إليه أحوال هذا الإنسان بسبب التعنيف المسترسل من المستعمر ومن البنيات القديمة الباقية.
الفرد مثقل بثقافة شفهية تكاد تضيع، مثقلة بِحكمٍ مستكينة تفسر كل شيء تقريبا، يجد فيها الضعيف تبريرا لضعفه ويجد فيها المستبد تبريرا لبطشه وزد على ذلك هذا التمسك المرضي بالعرق أو اللغة أو بنظريات تأخذ من الدين قشوره، ومن العرق والقبيلة انغلاقهما ومن اللغة محدودية مصطلحاتها، وزد عليها هذا الفراغ الذي خلَّفه ماضي الإنسان المستعمَر مع صدمة الحداثة. في الأفلام غالبا ما نرى شخصية الشرقي المغترب يسل سيفه من غمده وأمامه الغربي يفرغ مسدسه في ثوان.
هنا يأتي دور النظريات في التصحيح والتخطيء والتوجيه، وهي العالم الثالث الذي أشرنا إليه آنفا. مع القراءة يَكتشف الفرد المغترب طرقا أفضل لفهم العالم ولرصد سبل الانعتاق وأفضل العوالم الممكنة. القراءة المزدوجة والبحث في آثار أفضل المفكرين من كل حدب وصوب وحدها تنير الطريق. آن الأوان ربما إلى أن يفطن إنسان ما بعد الاستعمار إلى أن الانغلاق والاحتماء والخوف من الجديد بنيات ذهنية خطيرة. وعلى حد القول القدماء: قد يكون “عدو عاقل خيرا من صديق جاهل”. فلتنطلق الذات تنشد كل جديد، ليس ترفعا ولا هروبا ولا تفسخا كما يدَّعي المدَّعون، وإنما لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، لأنه من خلال اكتشاف ما عند الآخر نقدر ذواتنا ونزيد من استنارتها وتوهجها.
أليس من دواعي الاغتراب أن يفرح الفرد بتأويل واحد للنصوص والوجود؟ العِلم يقتضي تأو يلات جديدة وهولا يبحث ليقول نفس الشيء أو ليعيد نفسه، بل يتطوَّر بالزيادة والنقصان. وعلى هذا النهج يجب أن نسير جميعا بشرط ألا نكون كالذي رأى العشب ولم يرى الهأوية. إن ما يزيد من المعرفة ويجعلها ممكنة هو قدرتنا على الاختيار من بين أفضل النظريات الموجودة. وهذا لن يتأتى إلا بأن نفكر في حدود ما هو متاح وجيد في ثقافتنا وثقافة العالم أجمع، فننشد بذلك ما نطور به من أنفسنا وننقص به من اغترابنا.