التخطي إلى المحتوى

كتبت فاتن الحاج في “الأخبار”:

لم يستشعر موظفو القطاع العام، بعد، خطورة قطع رواتبهم الشهرية فجأة. بعضهم يركنون أصلاً إلى أنّ الرواتب هي ورقة التوت الأخيرة التي تستر هذه الدولة، وتوقيفها لن يكون مزحة خصوصاً أنها مرتبطة بصورة خاصة بأموال العسكريين. اطمأنوا، أخيراً، إلى أنّ رواتب تموز، على الأقلّ، ستكون مؤمنة، وما عليهم سوى أن يعدّوا الأيام الفاصلة عن إحالتها إلى الدفع بعد إنجازها في مديرية الصرفيات في وزارة المال، وهو ما يتطلّب أسبوعين وفق ما جاء في بيان موظفي المديرية. لكن ماذا سيفعل المعلمون والموظفون والعسكريون حتى موعد القبض، وكيف سيتدبّرون أمورهم ويرتبون أولوياتهم؟

فوبيا من الأسعار

كأن مريم، الأستاذة في التعليم الثانوي الرسمي، كانت تنتظر اتصالنا لتفجّر غضبها ممّا آلت إليه حياتها ووضع أسرتها «براتب أو من دونه، بتنا ملحوقين ومديونين، علماً أننا اختصرنا الكثير من الحاجيات والتفاصيل». تقول إنّ في قلبها غضب كبير، وأنها أصيبت بالفوبيا من الأسعار والمصروف، إذ لم تعد تجرؤ أن تصطحب أولادها إلى محال للفواكه والخضر، كي لا تصطدم بعدم قدرتها على شراء ما تقع عليه عيونهم. وهي أيضاً لا تدخل صيدلية كي لا تُفاجأ بالارتفاع السريع لسعر الدواء، كما أنها تشتري حاجياتها في طريق عودتها من المدرسة، وتحرص على أن لا تضطر إلى الخروج من المنزل وإجراء مشوار إضافي واستهلاك مزيد من الوقود في سيارتها. تجزم بأنها لم تقبض ولو لمرة واحدة أي من الحوافز (90 دولاراً) أو المساعدات الاجتماعية (نصف راتب) ولا تعرف السبب. تحمّل المسؤولية في هذا الإطار للرابطة التي مرّرت الانتخابات والامتحانات الرسمية وسكتت عن هدر حقوق الأساتذة، مستغربة «اتهامنا بتخريب التعليم». مريم ليست الموظفة الوحيدة التي لم تحصل على الحوافز من الجهات المانحة، فمن الموظفين من قبض هذا الشهر عن كانون الثاني أو شباط أو آذار أو نيسان، ومنهم من لا يقبض أبداً، وثمة سؤال ملحّ ومستمرّ: أين تذهب الأموال التي تُرصد لدفع الحوافز ولا تُصرف؟

يؤلم الأستاذة الثانوية اليوم بأن تصبح موضع شفقة الناس، وأن تتهاوى السنوات الـ25 التي أمضتها في التعليم أمامها، «فهل يعقل أن يذهب تعب كل هذه السنوات سدى وأن لا أكون قادرة على شراء أبسط الاحتياجات، وأن يكون دعائي الأساسي أن لا أمرض؟».

قلق من الابتزاز الصحي

زميلتها لينا لا تستوعب أن الدولة يمكن أن تحرم موظفيها من الرواتب، وهو حق أساسي وبديهي ويفترض أنه خط أحمر. «وكأنه لا يكفينا الخوف والتعرّي الصحي والاجتماعي الذي نعيشه، وأننا محرومون من بدل النقل منذ ستة أشهر». القلق بات صفة ملازمة ليوميات الأستاذة الثانوية، منذ أن أصيب أبوها بمرض السرطان، إذ تتعرّض، كمعيلة أساسية، لأسرتها، لكلّ أنواع الابتزاز الصحي، لتأمين الفحوص والعلاجات وفروقات التغطية الصحية لتعاونية موظفي الدولة. المختبرات، كما قالت، «تطلب منا أن نقرّش على سعر صرف الدولار، والأدوية مش شايلة همها وفضّلت أن أرمي كيس أدوية كبير في سلة المهملات على أن أنتظر مساعدة التعاونية». وأشارت إلى أنها باتت تنتظر حلول السماء، بعدما فقدت الأمل من حلول الأرض.

إنفاق المدخرات

لا شيء يجبر كلودين، الموظفة في تعاونية موظفي الدولة، على الحضور إلى مقرّ عملها سوى الالتزام الأخلاقي والإنساني مع موظفي القطاع العام الذين ينتظرون إنجاز معاملاتهم لقبض المساعدات المرضية.

في ما عدا ذلك لا يكفيها الراتب (مليونان و100 ألف ليرة)، كما تقول، لأكثر من أسبوع، إذ تحتاج بالحد الأدنى إلى نصف صفيحة بنزين للانتقال يومياً، مشيرة إلى أنها تداوم يومين أو ثلاثة بحلاوة الروح. تقول: «عايشين بالقلة والتعتير، وقد أنفقت كل مدخراتي في شراء حاجيات يومية من حليب وحفاضات وغيرها. زميلها طارق الذي ينتقل من شحيم إلى بيروت يستعين في قضاء حوائجه على بيع المجوهرات «دأبنا منذ ستة أشهر على بيع الذهب الذي في حوزة زوجتي، وليس أصعب من سماع ابني وهو لا يتجاوز الست سنوات يقول إن الدولة حرمتنا من هذا الأمر أو ذاك».

«السجن الكبير»

لم تستطع جوسلين، الموظفة في وزارة الداخلية، أن تحبس دموعها، لدى الحديث عن «السجن الكبير» الذي يعيش فيه الموظف. تقول: «في السجن الصغير يحصل السجين على المأكل والمشرب. أما نحن الموظفون فقد تحوّلنا إلى فئة معدمة. بتنا محط أنظار الجميع. رواتبنا انخفضت من 1500 دولار إلى 70 دولاراً. أولادنا نسوا شكل الفواكه والشوكولا. لا نعلم ما إذا كنا قادرين على تعليمهم في العام الدراسي المقبل. حرقوا آمالنا وقضوا على مستقبلنا». تنقل جوسلين ما قاله لها أحد العسكريين الذي التقته في أثناء مشاركتها في أعمال الانتخابات النيابية «خليكم مستمرّين بالإضراب ومشكلين قوة ضغط وما تقبضونا رواتبنا حتى يكون عنا حجة ما ننزل على مقرّ عملنا». يؤلم الموظفة أن لا يؤتي الإضراب ثماره «يضغطون علينا للحضور بحجة خدمة المواطن وتسيير معاملاته ونحنا ما حدا بيطّلع فينا وبأولادنا». كما يزعجها أن «يُنظر إلى موظفي الإدارة على أنهم جميعهم فاسدون، فيما الواقع مغاير لذلك، وإن كنا لا ننكر أن الفساد موجود». تبدو مقتنعة بأن «لا حلّ سوى أن يلتفت الإعلام إلينا وأن يحوّل إضرابنا وقضيّتنا إلى قضية رأي عام».