التخطي إلى المحتوى

كتب شارل جبور في “الجمهورية”:

إختلفت كثيراً الانتخابات الرئاسية في استحقاق 2022 عن استحقاق 2014 الذي أدى إلى انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية في العام 2016، وأوجه الاختلاف كثيرة.

ثلاثة عوامل أساسية تتحكّم في مسار أي استحقاق رئاسي: العامل الأول يتعلّق في ميزان القوى البرلماني وهو العامل الأساسي المرجِّح لأي ترشيح والحاسم على هذا المستوى، وفي حال كان هذا الميزان «طابشاً» باتجاه معيّن فهذا يعني ان النتيجة محسومة، ولكن من الصعوبة بمكان توافر غالبية الثلثين مع فريق سياسي واحد، ما يعني انّ الفراغ سيِّد الموقف بانتظار الظروف التي تسمح بالتوافق على اسم الرئيس.

وعلى رغم الانتكاسة التي مُنيت بها قوى 14 آذار في إسقاط حكومة الرئيس سعد الحريري الأولى في العام 2011 وتشكيل حكومة من لون واحد قبل ان تعود وتتشكّل حكومة وحدة وطنية في الأشهر الأخيرة لولاية الرئيس ميشال سليمان، والتي شكلت مطلباً لـ»حزب الله» من أجل ان تتصدى للجماعات المتطرفة، فإن الأكثرية النيابية في مجلس نواب العام 2009 كانت لمصلحة 14 آذار، ولكن ليست أكثرية حاسمة بطبيعة الحال، أي انها ما دون الثلثين.

وقد نشأ عن ميزان القوى المتعادل بين 8 و 14 آذار فراغ طويل دام لحوالى السنتين ونصف السنة، ولكن الخطيئة التي ارتكبتها بعض القوى في انتفاضة الاستقلال انها تخلّت عن ترشيح الدكتور سمير جعجع الذي كان أحد أهداف هذا الترشيح الأساسية تعطيل انتخاب العماد ميشال عون من أجل الوصول إلى مرشّح ثالث، إلا انّ عدم تراجع عون عن ترشيحه ودعم «حزب الله» له وَلّد المخاوف لدى بعض قوى 14 آذار من ان يكون الهدف من الفراغ الرئاسي المفتوح الإطاحة باتفاق الطائف، فتخلّت عن ترشيح جعجع لمصلحة دعم خيار عون او رئيس تيار «المردة» سليمان فرنجية تحت عنوان انّ الحفاظ على هيكل الدولة يبقى أقل خطرا من الذهاب إلى مؤتمر تأسيسي، وباقي الرواية معروف…

فالخطيئة التي ارتكبتها بعض قوى 14 آذار انها جعلت الخيار بين مرشحين من 8 آذار، فيما ينطلق برلمان 2022 من ميزان قوى برلماني متعادل أيضاً، ولا يملك فيه أي فريق الأكثرية النيابية ولا أكثرية الثلين، ما يعني ان انتخاب رئيس الجمهورية سيكون متعذراً من دون الوصول إلى توافق، ولكن الهدف الأساسي والمشترك لمكونات المعارضة داخل هذا البرلمان رفض انتخاب رئيس من 8 آذار، اي رفض انتخاب فرنجية او النائب جبران باسيل، ولا مؤشرات إلى ان سيناريو الفراغ او انتخاب رئيس من الموالاة سيتكرّر، فيما نجاح المعارضة في قطع الطريق على انتخاب باسيل وفرنجية يُعدّ انتصاراً لها كون هدف 8 آذار الأول انتخاب رئيس من صفوفها والمحافظة على موقع رئاسة الجمهورية.

فانطلاقة المعارضة اليوم أفضل بكثير من الوضع الذي انتهت إليه 14 آذار في معركتها الرئاسية في برلمان 2009، والأساس هو ان تحافظ على هذه الانطلاقة وتعمل على توحيد موقفها من أجل انتخاب رئيس على قاعدة غير استفزازي للفريق الآخر ولكن الأهم غير خاضع لهذا الفريق، وكل المؤشرات تدلّ إلى انها ليست في وارد التنازل او التراجع لسبب بديهي لم يكن بهذا الوضوح في الانتخابات الرئاسية السابقة وهو انّ اي رئيس من 8 آذار يعني بالحد الأدنى المراوحة في الأزمة المالية.

وعدم قدرة المعارضة على توحيد صفوفها بشكل كامل في جلسة أمس على المرشّح النائب ميشال معوّض الذي حاز أكثرية أصوات المعارضة مَردّه إلى مهلة الـ48 ساعة التي حددها الرئيس نبيه بري بين الدعوة والجلسة، فيما كانت قد قطعت شوطا كبيرا في اتصالاتها سعياً إلى مرشّح واحد من خلال البحث في سلّة أسماء، والأساس يبقى في المشهد الرئاسي الذي قدمته عبر تبنّيها لمرشّح في الوقت الذي لم يتمكن فيه فريق المولاة من تبنّي اي ترشيح بسبب أولويته الحكومية لا الرئاسية، فيما الدينامية المعارضة تصاعدية وتحتل كل المشهد الرئاسي، وما حصل في جلسة الأمس يُبنى عليه من أجل مزيد من توحيد الصفوف حول معوض.

العامل الثاني يرتبط في ميزان القوى السياسي في البلد والذي ينعكس على الوضع البرلماني والمناخات السياسية السائدة، وليس خافياً على أحد انّ هذا الميزان اختلّ لمصلحة المعارضة على أثر الانهيار الكبير الذي انزلقَ إليه لبنان، وقد لمس الرأي العام عن كثب مخاطر ان تبقى المؤسسات الدستورية ممسوكة من قبل فريق الممانعة، ويمكن التوقّف على هذا المستوى أمام ثلاثة عناصر أساسية:

العنصر الأول يتصلّ بالانتخابات النيابية التي بَدّلت في ميزان القوى المجلسي نتيجة إدراك الرأي العام اللبناني انّ الخروج من الأزمة الوطنية والمالية الحادة يبدأ من البرلمان، والاقتراع الكثيف فاجأ فريق 8 آذار الذي كان قد أعلن مرارا ان ميزان القوى لن يتبدّل في الانتخابات وأن الأكثرية ستبقى رهن إرادته، وهذه الانتفاضة الشعبية التي تمّت ترجمتها في صناديق الاقتراع مردّها إلى القناعة الشعبية بضرورة التغيير.

العنصر الثاني يتعلّق بالناس التي لم يعد لديها ما تخسره بعد ان فقدت مدّخراتها وجنى عمرها ووجدت نفسها فقيرة وجائعة، وبالتالي لم يعد من سلاح يخيفها طالما انها أصبحت مُخيّرة أساساً بين الهجرة وبين الموت جوعاً، ما يعني انها لا تخشى السلاح ولا استخدامه في وجهها، وليست في وارد القبول باستمرار الأمور السلطوية وكأنّ شيئاً لم يكن، لأن مصيرها ومصير أولادها على المحك.

العنصر الثالث يكمن في ان عدم تبنّي فريق الموالاة لأي مرشّح من صفوفه مردّه الأساس إلى إدراكه نقمة الرأي العام اللبناني على أدائه السلطوي، ولذلك يعمل على إقناع حليفيه باسيل وفرنجية بالعدول عن الترشُّح لاختيار المرشّح الرئاسي الذي يُبعد عنه مسؤولية الانهيار وعدم الخروج منه من جهة، ويكون هذا المرشّح تحت سقفه السياسي من جهة أخرى، فيما لو كان هذا الفريق متمكّناً من وضعه لما تأخّر في دعم أحد مرشحَيه من أجل ان يحافظ على موقعه الرئاسي لا ان يتراجع عن هذا الموقع لمصلحة مرشّح مُموّه.

العامل الثالث يرتبط بميزان القوى الدولي الذي على رغم انسحابه من الأزمات العالمية وحصر اهتمامه في الاستقرار في لبنان، إلا انه وجد انّ هذا الاستقرار معرّض للسقوط المدوي في حال استمر فريق 8 آذار مُمسكاً في رئاسة الجمهورية واستطراداً السلطة التنفيذية. وبالتالي، وجد من الضروري إبعاد هذا الفريق عن السلطة تجنّباً لانهيار يُسقط هيكل الدولة ويُدخل لبنان في الفوضى ويعيده إلى ما قبل العام 1990.

ولا يندرج البيان الثلاثي الذي صدر عن واشنطن وباريس والرياض في إطار بيانات رفع العتب التي غالباً ما تصدر عن المجتمع الدولي، إلا انّ الرسالة من ورائه انه في حال لم يُنتخب رئيس الجمهورية الذي يلتزم بتطبيق اتفاق الطائف والقرارات الدولية والإصلاحات المالية والاقتصادية فإنّ على اللبنانيين عموماً والكتل النيابية خصوصاً تحمُّل مسؤوليتها في ما قد يلحق بلبنان ويصيبه، لأنه لم يعد من مجال للخروج من الأزمة سوى عن طريق العودة إلى المرجعيات الرسمية والشرعية التي يجتمع اللبنانيون والمجتمعَين العربي والغربي حولها.

ولأنّ الحرص الدولي على استقرار لبنان هو الهدف الأساس في هذه المرحلة، ولأن الأزمة المالية الحادة قد تطيح بهذا الاستقرار في حال استمراره، ولأن الدول الخليجية عموما والسعودية خصوصا هي الدول الوحيدة القادرة على مساعدة لبنان للخروج من أزمته، فإنّ عواصم القرار وضعت مفاتيح إنقاذ لبنان بيد الرياض التي كانت قد ساهمت بإنهاء الحرب وتوحيد اللبنانيين من خلال اتفاق الطائف، وما تقوم به اليوم يكمن في الدفع باتجاه وقف الانقلاب على هذا الاتفاق تمهيداً لإعادة العمل به.

وانطلاقاً من هذه العوامل الثلاثة المتمثّلة في ميزان القوى البرلماني وميزان القوى السياسي وميزان القوى الدولي فإنّ الاختلاف بين الانتخابات الرئاسية السابقة والحالية مختلف تماماً، وهذا الاختلاف سيقود عاجلاً أم آجلاً، ومهما طال الفراغ أو قَصر، إلى رئاسة غير ممسوكة من فريق 8 آذار.