التخطي إلى المحتوى
ليس لأن السلاخّين كثروا بعدما وقعت البقرة، وليس تشفّيًا أو شماتة، بل إنطلاقًا من الواقع الذي لم يستطع ما يسمى بـ”النواب التغييريين” أن يـتأقلموا معه، ولم يتمكّنوا بالتالي من الإنسجام مع ما فيه من “شطارات”. ولكن ما لم يقدروا على تخطّيه، وهو الأسوأ، هو أنهم لم يتوحدّوا حول رأي واحد أو فكرة واحدة أو برنامج واحد، على رغم الورقة الرئاسية، التي فيها الكثير من النقاط الإيجابية والجيدّة، التي كان من الممكن أن يستثمروها سياسيًا، وأن يتوحدّوا حولها كمنطلق لعملهم السياسي. 
ولكن عندما وصل الأمر إلى الجدّية رأيناهم مبعثرين ومشتتّين ومنقسمين، ولكل منهم رأيه الخاص، فضلًا عمّا كشف عنه أداؤهم البرلماني والسياسي من “مراهقة” و”خفّة” و”قلّة خبرة”، فوجدوا أنفسهم مأسورين في قمقم الشعارات الفضفاضة، وفي معاداة الجميع ووضعهم في خانة واحدة، إنطلاقًا من شعار “كلن يعني كلن”.  
وعلى رغم أن الإنتخابات النيابية الأخيرة قد أفرزت واقعًا جديدًا، إلاّ أنه لم يستطع أن  يفرض نفسه بقوة على جميع القوى السياسية التقليدية، ولم يستطع النواب “التغييريون” أن يفرضوا أنفسهم كقوة يُحسب لها ألف حساب، وذلك بسبب تشتتّهم، وبسبب عدم تمكّنهم من تشكيل  قوة مجلسية لا يُستهان بها، وخاصة في المفاصل الرئيسية، ومن بينها الإنتخابات الرئاسية.  
لا يختلف إثنان على أن هؤلاء “التغّييريين” الآتين إلى المجلس النيابي للمرّة الأولى يمثّلون شريحة واسعة من اللبنانيين، الذين نزلوا إلى الشارع في 17 تشرين الأول من العام 2019 مطالبين بإصلاحات جذرية في طريقة إدارة الدولة تحت شعار “كلن يعني كلن “، وذلك قبل أن تتشتّت “الثورة” وتصبح “ثورات” بعدما تغلغلت فيها إيديولوجيات حاولت حرف “الثورة” الحقيقية عن أهدافها الأساسية. وهذا ما فعله البعض في شرذمة لوائح المجتمع المدني عندما شّكّلت أكثر من لائحة “ثورية” في أكثر من منطقة لبنانية فحالت دون إحداث خروقات مهمة في بعض المناطق والدوائر. وبهذه الطريقة تقلّص عدد النواب “التغييريين”.  
أمّا وقد أفرزت الإنتخابات هذا الواقع الجديد مع ما يحمله النواب الجدد من مشاريع “تغييرية” سرعان ما أكتشفوا بأنها مجرد أحلام وردية لم تعمرّ كثيرًا.  
وإستنادًا إلى ما تقدّم، لم يفلح النواب الجدد في ترجمة الروحية “الثورية” إلى واقع، ووجدوا أنفسهم بعيدين عن التكتلات النيابية والسياسية بمفهومها التقليدي، والتي تتلاقى طروحات البعض منها مع طروحات عامّة الشعب اللبناني، من دون أن يعني ذلك أن هؤلاء “التغييريين” بعيدون من حيث المبدأ، عن الذين ينادون بسيادة الدولة وحدها دون شريك لها في هذه السيادة. فهم يلتقون بذلك مع “القوات اللبنانية” و”الحزب التقدمي الإشتراكي” و”الكتائب اللبنانية” وبعض النواب المستقّلين. وهم قد يلتقون “مع “التيار الوطني الحر” في ما ينادي به، وإن كلاميًا، بإستعادة الأموال المنهوبة، ومع إقرار اللامركزية الإدارية والمالية الموسعة، ومع “حزب الله” في دعوته إلى محاربة الفساد، ومع حركة “أمل” في مطالبة رئيسها نبيه بري بـ”الدولة المدنية” وبإجراء الإنتخابات النيابية خارج القيد الطائفي.  
ولأنهم لم يكونوا لا مع هؤلاء ضد أولئك، ولا مع أولئك ضد هؤلاء، تشرذموا وتفرّقوا. وقد نتّهم بعض الذين عملوا من وراء الستارة  لفرط عقدهم، فضلًا عن أن عدم الإنسجام التام داخل الكتلة “التغييرية” هو الذي ساهم في تضييع فرصة إحداث ثغرة، ولو صغيرة، في جدار الحال السياسية، التي أوصلت البلاد إلى ما وصلت إليه من إنهيار وإهتراء.  
فرصة ثمينة ضاعت، ومعها ضاع الأمل في إحداث تغيير حقيقي، فهل يمكن لمن لا يزالون الأمل أن يتداركوا ما وقعوا فيه من أخطاء تقديرية، وأن يعيدوا إلى حركتهم التغييرية ديناميتها وحيويتها، أم أن الأخطاء القديمة ستجرّ أخطاء جديدة؟