جاء في الراي الكويتية:
أسوأ السيناريوات التي يمكن أن يصل إليها لبنان لا تكمن فقط في استعادة سيناريو 1994 أي حين اعتُقل رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع، بل في استعادة سيناريو الصِدام بين القوات والجيش اللبناني عام 1989. هذا الصِدام الذي يُقْلِق الأوساط السياسية مردّه إلى طلب مفوّض الحكومة لدى المحكمة العسكرية فادي عقيقي الاستماع الى جعجع في حادثة الطيونة التي وقعت في 14 الجاري.
عام 1989 شهد أكثر الصراعات المسلّحة حدّة بين القوى المسيحية. لم يكن الجيش حينها جيشاً لبنانياً بالمعنى المتعارَف عليه قبل الحرب وبعدها، كان جيشاً أقرب إلى مفهوم الجيش المسيحي الباقي في بيروت الشرقية بقيادة العماد ميشال عون، ولم تكن ألوية الجيش موحّدة. وقع الصِدام العسكري بين الجيش والقوات اللبنانية على خلفية وقف العمل في المرافئ غير الشرعية ومحاولة عون الإمساك بالقرار السياسي والعسكري في بيروت الشرقية وحلّ القوات. وجاءت نتائجه مدمّرة على «الشرقية» وعلى الجيش والقوات معاً.
ورغم انتهاء الحرب بعد الطائف ومعاودة توحيد الجيش بقيادة العماد إميل لحود قبل أن يصبح رئيساً للجمهورية، ظلّت صبغة الخلاف والصِدام غير المعلن بين المُوالين لعون في الجيش و«القواتيين». وزاده حدة أن بعض الضباط والعناصر سُجنوا أو سُرّحوا بعد نفي عون ودخول القوات السورية المناطق المسيحية، وبعضهم ترك طوعاً المؤسسة العسكرية.
لم يُنْهِ اعتقال جعجع الخلاف العميق بين الفريقين، بل تَعَزَّزَ أكثر مع الإطار السياسي الذي أصبح عليه «العونيون» تدريجاً في «التيار الوطني الحر» وفي انضواء مجموعات من عسكريين وضباط سابقين عونيين إليه شكلوا ركزيته الاولية.
وإلى ما قبل توقيع ورقة اتفاق معراب (كانون الثاني 2016)، ظلّ العونيون يتحدّثون عن ارتكاباتٍ قواتية في حق ضباط وعسكريين في المعارك المدمّرة بينهما، فيما كان القواتيون يتهمون ضباطاً وعسكريين بولاءٍ لشخص عون، وليس للجيش، ما ساهم في تدمير بيروت الشرقية وقتْل المئات من أبنائها وتهجير الآلاف.
رغم أن ثلاثين عاماً مرت على هذا الصراع، ورغم التغييرات التي لحقت بجيل جديد من الضباط والعسكريين في الجيش، لا ينتمون إلى حقبة تولي عون قيادته، إلا أن ظاهرة الوجود العوني في الجيش لا تزال قائمة الى اليوم وتَعَزَّزَتْ أكثر مع وصول عون إلى رئاسة الجمهورية.
في المقابل حرصت القوات ومنذ خروج جعجع من السجن (تموز 2005) على بناء علاقة ثقة بالجيش، في عهود قياداته المتعاقبة، العماد ميشال سليمان والعماد جان قهوجي والعماد جوزف عون. وكان حرص هذه القيادات على تحييد الصراعات الماضية عن العلاقة مع القوات، في ضوء تَواصُل دائم وزيارات متعاقبة لمسؤولين قواتيين الى مقر قيادة الجيش، وحرصت القوات دائماً على الإشادة بدور الجيش في كثير من المحطات الأمنية والعسكرية وكان آخِرها عملية فجر الجرود ومن ثم تظاهرات 17 تشرين الأول (2019).
بعد حادثة عين الرمانة الشياح، تعاملتْ القوات مع الجيش من منطلق الحرص على إظهار التنسيق معه واحترام تدابيره والتحقيقات الأمنية التي تجريها مديرية المخابرات في الجيش. ورغم اعتقال مجموعة من القواتيين والتحقيق معهم، ظلت قيادة القوات على تَعامُلٍ مضبوط الإيقاع مع مجريات الحدَث، مبدية اطمئنانها إلى سير التحقيقات لأنها في يد مخابرات الجيش، لتنشغل في موازاة ذلك بالعاصفة السياسية بينها وبين «حزب الله».
ورغم السقف العالي لخطاب الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله وردّ جعجع العالي السقف ايضاً، كانت الأجواء السياسية تشير الى محاولة احتواء الحادثة وإبقائها تحت سقف المناوشات السياسية. لكن طلب عقيقي، الذي تربطه صلة قربى برئيس البرلمان نبيه بري، الاستماع إلى جعجع تَوازياً مع إطلالة رئيس «القوات» التلفزيونية (ليل الخميس) أثار ردود فعل متفاوتة حيال التوقيت والهدف العملاني، ولا سيما أن جعجع أكد رفضه الحضور ما لم يحضر الأطراف الآخرون الى التحقيق كذلك وفي مقدمهم نصر الله.
وفيما الأنظار تتجه نحو درس الآفاق القانونية التي تترتب على الاستدعاء، فإن أول آثار جانبية يمكن أن تنتج عن استدعاء المفوض لدى المحكمة العسكرية، تكمن في استعادة فصل من فصول العلاقة المتوترة بين القوات والجيش. فتصرّف عقيقي انطلق من التحقيقات التي تجريها مديرية المخابرات، وهو مفوض في المحكمة العسكرية، مع ما تعنيه من «ذكريات» لها علاقة بالمراحل السابقة التي جرى فيها التعامل مع حزب القوات قبل حلّه وبعده. ورغم أن عقيقي تصرف بناء على معطيات وردت إليه من مديرية المخابرات، إلا أن لا سلطة لقيادة الجيش عليه ولا الجيش هو الذي طلب استدعاء جعجع. كذلك فإن الجيش لم يُنْهِ تحقيقاته بعد، بل هو في طور استكمالها.
لكن المشكلة هي أن اللعب على وتَر العلاقة بين الطرفين ارتفعت وتيرته في الأيام الأخيرة على خلفية تركيز «التيار الوطني الحر» حملاته الاعلامية والسياسية منذ إطلاق النار في الطيونة على كون «القوات» مسؤولة مباشرة، رغم أن أول معلومات أمنية كشفت بالصور إطلاق أحد العسكريين النار على المتظاهرين من «حركة أمل» و«حزب الله». كما استعاد مسؤولون في التيار مراحل الحرب ولا سيما بين «القوات» والجيش في عهد عون والاتهامات التي سيقت في حق جعجع بمسؤوليته المباشرة عن مقتل ضباط في تلك المرحلة.
لكن في المقابل فإن الجيش لم يتصرّف على أنه فريق، بل على العكس فهو حرص منذ اندلاع الأحداث على التلميح إلى مسؤولية المتظاهرين في التسرّب نحو شوارع فرعية حيث وقع الاصطدام، كما أن قيادة الجيش لا مصلحة لها حالياً في الوقوف مع أي فريق ضد أي فريق آخًر، وقائد الجيش جوزف عون أبدى حرصه أكثر من مرة على استمرار العلاقة مع كافة القوى السياسية. ورغم أن الجنرال عون ينتمي تاريخاً إلى «العونيين» بالمفهوم السائد سابقاً، إلا أنه حالياً ومن موقعه كمرشح طبيعي لرئاسة الجمهورية، وعلاقاته الغربية وخصوصاً الأميركية منها، والعربية لا تسمح له بجرّ إلجيش الى مهالك والسير بخطوات غير مدروسة. ما يعني ان محاولة ايجاد صِدام على شاكلة ما جرى سابقاً لا يبدو أن من السهل القيام به، وسط التوازنات المحلية والدولية.
ويبقى أخيراً أن قائد الجيش زار بكركي والتقى البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي، وكانت أحداث عين الرمانة وتداعياتها محور البحث بينهما، من زاوية طلب بكركي التعامل مع جميع المعنيين في الحادثة سواسية، وفق معلومات لـ «الراي»، وتذكيراً بما قاله في عظته من تحذيرٍ من تسييس الملفات والاتهامات العشوائية.