لم يجدد اللبناني جهاد بوليصة تأمينه الصحي لدى استحقاقها مطلع شهر فبراير (شباط) الحالي، بعدما اتصل بأكثر من شركة تأمين للاستفسار عن الأسعار، وتلقى إجابة واحدة: «نتقاضى الدفعات بالدولار النقدي حصرا كشرط أساسي لتغطية كامل نفقات الاستشفاء».
ويشرح جهاد (30 عاما) الذي يعمل مدربا رياضياً لـ«الشرق الأوسط» أن «أسعار البوالص تتراوح بين 700 و800 دولار للدرجة الثانية، أي أكثر من 17 مليون ليرة لبنانية»، مؤكدا أن هذا المبلغ «يفوق قدرات من يتقاضون رواتبهم وبدل أتعابهم بالليرة اللبنانية»، وتابع: «التأمين أصبح للمقتدرين فقط».
وأصبح الدولار يتحكم بكل مفاصل معيشة اللبنانيين، وليس آخرها شركات التأمين الخاصة التي لم تعد تقبل الشيكات المصرفية أو بالدفع على سعر منصة «صيرفة» (8000 ليرة لبنانية للدولار الواحد) أو حتى على سعر صرف السوق السوداء (حوالي 21000 ليرة للدولار) لقاء تأمين تكلفة الاستشفاء، وتصر على تلقي الدفعات بالدولار النقدي حصراً لقاء التغطية الصحية.
ويسأل جهاد عن «أهمية التأمين الصحي» خصوصاً بعد «التجربة المخزية العام الماضي، مع إحدى الشركات الرائدة في هذا المجال»، على حد وصفه، ويخبر أن «التأمين لم يغط أكثر من 20 في المائة من فاتورة التحاليل الطبية التي أجريتها بحجة أن المختبرات والمستشفيات تطلب الدفع بالدولار النقدي»، سائلاً: «ما الجدوى من التأمين طالما أننا ندفع فارق التكاليف؟ نحن نسدد الفاتورة مرتين».
ورفضت شركات التأمين العام الماضي تغطية نفقات الاستشفاء كاملة بحجة أن المستشفيات تطلب التسديد بالدولار في حين أن المسجلين بالتأمين سددوا ثمن البوالص بالشيكات المصرفية أو على سعر منصة صيرفة (3900 ليرة لبنانية للدولار الواحد آنذاك)، ما كبد أصحاب البوالص فوارق مالية هائلة بسبب الكباش الحاصل بين المستشفيات وشركات التأمين، فالأولى تسعر الفواتير بالدولار والأخيرة ترفض التسديد على سعر صرف السوق السوداء متمسكة بالعقود المبرمة بين الطرفين.
وعصام الذي يعمل في واحدة من أهم شركات التأمين في لبنان يؤكد لـ«الشرق الأوسط» شكوك جهاد، ويكشف أن «تسديد البوليصة بالدولار غير النقدي لن يحمي المؤمن من إجباره على دفع جزء من الفاتورة الطبية»، موضحا أن «هناك مستشفيات تلتزم بالعقد المبرم مع شركات التأمين في حين يتهرب بعضها من الالتزام في ظل غياب الرقابة».
لكن نقيب المستشفيات الخاصة في لبنان سليمان هارون يشرح لـ«الشرق الأوسط»، أن «الاتفاق الحالي بين معظم المستشفيات وأغلبية شركات التأمين ينص على أن المريض يدفع ما نسبته 15 في المائة من الفاتورة الاستشفائية في حال كانت بوليصة التأمين لم تدفع بالدولار النقدي وسارية المفعول، أما تلك الجديدة المدفوعة بالدولار فتغطي الفاتورة الاستشفائية كاملة ما عدا الأمور التي لا تدخل ضمن تغطية شركات التأمين أو في حال كانت البوليصة تغطي الفاتورة لغاية سقف معين».
وفي هذا السياق، يلاحظ عصام أن «الكثير من موقعي عقود التأمين باتوا غير قادرين على تجديد بوالصهم بسبب الأزمة الاقتصادية، في حين يلجأ البعض إلى الحصول على بوالص بتقديمات أقل، كل حسب ظروفه».
ولم تسمح ظروف مصطفى، الموظف في إحدى الشركات والذي يتقاضى راتبه بالعملة الوطنية، تجديد بوالص التأمين الخاصة به وبعائلته، فأعطى الأولوية لابنه الصغير ووالده السبعيني على نفسه وزوجته «خوفا من أي عارض صحي يصيبهما»، حسبما يروي لـ«الشرق الأوسط».
ويقول مصطفى المنضوي تحت تغطية الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي: «اضطررت إلى تخفيض درجة تأمين ابني ووالدي ليشمل الفاتورة الاستشفائية فقط، فأنا أخشى عليهما من أي انتكاسة صحية في هذه الظروف الصعبة، خصوصاً أن المرضى يموتون على أبواب المستشفيات، والأخيرة تطلب دفعات مسبقة بالدولار، أما الضمان الاجتماعي فحدث ولا حرج، ما الفائدة منه أصلا؟».
وأصبحت عملية دخول المرضى المشمولين بالجهات الضامنة، من الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي ووزارة الصحة وتعاونية الموظفين، إلى المستشفيات عملية مكلفة جدا، إذ ترفض المستشفيات استقبال المضمونين كافة إلا في حالة موافقة المريض على سداد 90 في المائة من الفاتورة الاستشفائية نقداً مقابل 10 في المائة للجهة الضامنة.
ويؤكد نقيب أصحاب شركات التأمين إيلي نسناس لـ«الشرق الأوسط»، أن «شركات التأمين بدأت تتقاضى أقساط البوالص بالدولار النقدي»، عازيا السبب إلى تقاضي المستشفيات فواتيرها على سعر صرف الدولار في السوق الموازية.
كما يذكر أن «التسديد بالدولار النقدي خفض فاتورة البوالص بنسبة تتراوح بين 20 و40 في المائة من السعر الذي كان يدفعه المؤمن في السابق، وحسب البرنامج الذي يختاره، فالبوليصة التي كانت تكلفتها 1000 دولار (3.9 ملايين ليرة لبنانية على سعر منصة صيرفة آنذاك) في السابق، انخفض سعرها وأصبحت بحدود الـ700 دولار (حوالي 15 مليون ليرة لبنانية على سعر السوق الموازية) تقريبا».
وإذ يوضح أن عدداً كبيرا من المؤمنين خفضوا درجات تأمينهم الصحي بسبب الظروف الصعبة التي يمرون بها، يشير إلى «استغناء ما نسبته 15 و20 في المائة عن البوالص بالكامل»، لافتا إلى «لجوء البعض إلى خيارات جديدة طرحتها شركات التأمين تؤمن من خلالها خدمات محدودة وبسعر أرخص لكي لا يبقوا من دون أي تغطية استشفائية».
– بوالص تأمين السيارات
ولا تختلف طريقة دفع تأمين السيارات عن التأمين الصحي، بعدما قضم انهيار سعر صرف العملة الوطنية 90 في المائة من قيمة الرواتب في ظل أسوأ أزمة اقتصادية تشهدها البلاد. وبحسب نسناس، خفضت شركات التأمين أسعار بوالص السيارات مقابل استيفاء ثمنها بالدولار النقدي، كما يشير إلى أن المواطنين خفضوا درجات التأمينات أيضاً، فمن كان يدفع تأميناً ضد جميع المخاطر اختار الذهاب إلى التأمين ضد الغير لتقليل الكلفة بعدما أصبحت البوليصة بالدولار.
وجملة واحدة من مندوب المبيعات لدى شركة التأمين كانت كفيلة بثني اللبناني علي عن تجديد بوليصة تأمين سيارته التي تستحق في مارس (آذار) رغم تخفيض سعرها من 600 دولار إلى 500، بعدما أبلغه أن البوليصة أصبحت تسدد بالدولار النقدي، حسبما يؤكد لـ«الشرق الأوسط».
والموظف الذي يتقاضى راتبا قدره 4 ملايين ليرة لبنانية، يشرح أنه قبل ارتفاع سعر صرف الدولار كان يدفع 600 دولار كلفة بوليصة السيارة وكانت تعادل 900 ألف ليرة لبنانية، ويستدرك قائلا: «مع ذلك كنت أسدد المبلغ على ثلاث دفعات».
ويتخطى مبلغ 600 دولار نقدي الـ12 مليون ليرة لبنانية في السوق السوداء، ويسأل علي «من أين يأتي الموظف بمثل هذا المبلغ خصوصاً من يتقاضى راتبه بالليرة اللبنانية؟». ويقول: «من الآن وحتى رفع الحد الأدنى للأجور أو انتعاش الليرة اللبنانية أو حصول معجزة ما، أنا مجبر على الاكتفاء بالتأمين الإلزامي».