جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع
المزيد من المشاركات
ستعرفهم من إطلالاتهم على الشاشات ومن خلال صورهم وفيديوهات متناثرة على منصات الإنترنت ومواقع الصحف، معلقة عيونهم دوما في انتظار توجيه أو إشادة أى من الأبوين، وتعرفهم من الإرهاق الذي تحمله العيون انتظارا وقلقا ومن تلك الضحكة الاستهلاكية المدربة التي تتناثر على وجوههم ككهل ترهقه أعباء الحياة، إنهم أولئك الأطفال الذين أثقلت سنواتهم أحلام الأب والأم المنقضية والمهدرة والشائخة، والتي صارت تماما كبضاعة أتلفها هوى السنوات انتظارا ثم أملا أن يحمل الأبناء شارات إحيائها فلا تمر الحياة دون تحققها، فآثروا التعويض أو الانتقام من حظ عاثر لاقاهم وحال دون حظهم المتخيل فحانت فاتورة التعويض عبر سيرة حياة ناشئة لأطفالهم، ولو كلف ذلك – الأطفال – غياب السنوات التي لا تحمل ثمة مسؤولية أكبر وأثقل من دروب التعلم الطليق المرح، وغير تجربة الصواب والخطأ الذي يفضي إلى تشكل شخصية خاصة نامية ثم تفاصيل تغييب نمو الحياة هانئة هادئة في سنواتها المبكرة للطفل وغير ذلك الكثير.
لن يكون حدث الطفل أو الطفلة الذي تعلن البرامج والمواقع عن عبقريته في حل المسائل الحسابية بسرعة وأمام الكاميرا في سباق يضم العشرات فيتعثر بعضهم وينتهي حزينا إلا وجها واحدا، أو مثل ذلك الذي يخفق في تخطى تصفيات الغناء والتمثيل أمام لجنة تحكيم تشبه الوصايات على مواهب غضة تتراص في صف اختبار “عبقريتها”، جميعهم بعض من طابور طويل لأطفال صغار متعبين يحملون أحلام الآباء والأمهات ويسيرون كأنهم “سيزيف” في أسطورة صخرة الألم، أو تماما كحاملي أثواب الحرير والتي لا يرتدونها فرحا وتيها في قصة تاريخ طريق تجارة الحرير الذي حملت صفحات المؤرخين حكاياته المسترخية بينما نسيت تماما عنت العرق والجهد التي سالت على مدقاته لكثيرين حملوا وحموا الأثواب التي لم يطلبوها أو يُعنوا بها كما لم تتحسسها أجسادهم فرحا يوما.
يمضي كثير من الآباء والأمهات في البحث عن طريقهم القديم والذي يستدعونه بقسوة بالغة في أبنائهم وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، حيث يمضي الطفل في طريق تم تحديده ومراقبته، يحمل وسما ورسما من تحققات مهدرة حياتيا للأب أو للأم، نتج عنها بلا وعي محاولة تحميل الأطفال بأدوار بطولية وتحقيق منجزات مبكرة ربما لا تعنيهم كثيرا وقد لا تسعدهم أيضا.
سترى أثرا من كل ذلك أيضا في إنهاك أطفال وفتيات في مراحل الطفولة وما بعدها في الانشغال بتفوق دراسي قد يتجاوز أحيانا طاقتهم الطبيعية وقدراتهم وملكاتهم، حتى لتكاد تكون حياة الطفل كلها تعليما خاليا من أبعاد حياتية مضافة وضرورية، لينتج عنها طفل آلي مبرمج، وسترى بعض تجلياتها أيضا في سباق محموم نحو دفع أطفال في لعبات رياضية أو أعمال فنية محددة خاصة كرة القدم والتمثيل والغناء والتفرغ الكامل لها كأنها طوق نجاة أو باب حياة وحيد لا بديل له.
هكذا سيمتلأ الفضاء التلفازي والإنترنتي يوما بعد يوم بحكايات مصنوعة عن أبطال وعلماء ومخترعين “صغار”، وأساطير رياضية مبكرة، وأصوات غنائية ومواهب تمثيلية قوية ناشئة، جميعهم يمنحهم الوعي الجمعي الشعبي والعام الاحتفائي لقب “الجهابزة”، ثم يصفقون محتفين مندهشين حين ظهورهم في البرامج والمواقع دوما بصحبة رعاتهم الدائمين “الآباء والأمهات”، لا يعني ذلك قط وبأية حال عدم تشجيع ورعاية ودعم موهبة الطفل حين يتلمسها الأبوان وتوفير كل مقتضيات نموها التلقائي براحا إنسانيا وليس طريقا مخططا هادفا لا يجد الطفل نفسه فيه، ثم ليعيش سنواته وفق طبيعتها وكما شاء الله لها أن تكون مراحل ونموا متدرجا عقليا ونفسيا.
تبدأ الملهاة المأساة مبكرة تماما حين يقرر أحد الوالدين أو كلاهما أن يصنع تاريخا ما مبكرا لهذا الطفل أو الطفلة، فتبدأ تفاصيل اقتطاع الزمن مبكرا من أعمارهم وألعاب طفولتهم، وستجدهم دوما في صحبة أب وأم أو أحدهما يسيرون، يقبضون على أيديهم ويجرونهم عبر الطرقات المحتلفة التي تفضي إلى ضوء الكاميرات أو مناضد التحكيم والمسابقات والتي تفضي إلى مشهد يمنح الأب أو الأم فخرا جمّا يمنحه إحساسا بتحقق غاب عنه وإنجاز ولى زمانه واختفى ولا يمكنه تعويضه دون أن يتوقف متأنيا قليلا ليسأل نفسه أولا وأمينا: هل يريد الابن أو الابنة حقا ذلك، ثم هل يسعد به؟!.
رابط المصدر