التخطي إلى المحتوى

كتب وجيه فانوس في “اللواء”:

ثَمَّةَ تَعبِيرانِ يَصِفانِ موضوع تَحدّي الخيارات، أحدهما “الخيار الصَّعبُ” وثانيهما “خياران أحلاهما مُرُّ”؛ فهل يُواجِهُ اللُّبنانيُّون، في أيَّام الانتخابات النِّيابيَّة التي يعيشون راهنًا، تحدّي “الخيار الصَّعب” أو تحدّي “خيارينِ أحلاهما مُرَّ”، أو ربَّما كلا التَّحدّيين؟

أَمَّا “الخَيارُ الصَّعب”، فإنَّ أنموذجه الثَّقافِيُّ التَّقليديُّ يحضر في ما يواجهه ُ”أوديسيوس”، والذي يسمَّى أحيانًا بـ”عُولِيس”، وهو الشَّخصيَّة البارزة في ملحمة “الأوديسَّة” لهوميروس. يواجه «أوديسيوس”، في معظم تحوُّلات الحبكة في الملحمة، كما في تطوُّر كلِّ واحدٍ من أحداثها، تحدِّيات “الخيار الصَّعب”.

لقد كان، على عليه، على سبيل المثال، حين يصل إلى جزيرة “كابريكون”، أن يواجه “حوريَّات البحر”؛ اللواتي كنَّ ينشدن الأغاني بأصوات ساحرة الأداء وشديدة الإغواء له ولبحَّارتهِ، أملًا منهنَّ في أن يستقرَّ وبحَّارته للعيش معهنَّ، مدى الحياة، في تلك الجزيرة. وما كان من “أوديسيوس”، في هذه الحال، إلاَّ أن اتَّخذ قرار تحدِّي “الخيار الصَّعب”؛ فعمد إلى وضع الشَّمع في أذان بحَّارته، كي لا يتمكَّنوا من سماع إنشاد الحوريَّات، ويخضعوا لإغوائهنَّ؛ كما عمدَ إلى ربط نفسه إلى صاري السَّفينة، حِفاظًا منهُ على حاسة السَّمع، لتعينه في تحديد وجهات إبحارهِ، إلى مملكتة في «إيثاكا»، ومقاوِمًا، في الوقت عينه، الرُّضوخِ لإغراء الحُورِيَّات وإغوائهنَّ.

وَتَروِي “الأُودِيسَّيه”، أنَّ “أوديسيوس” انتصر في خياره الصَّعب هذا؛ وتابع إبحاره باتَّجاه «إيثاكا»، حيثُ زوجه وابنه. ويرى المُحَلِّلون، ههُنا، أنَّ انتصار «أوديسيوس» لم يكن له أن يكون، لولا فاعليَّة اقتناعٍ عميقٍ عندهُ بخيارِ الوصول إلى «إيثاكا»، رغم جميع ما تعرَّضَ لهُ من إغواءِ حورِيَّات “كابريكون”. ولعلَّ في هذه التَّجربة الملحميَّة لـ”أوديسيوس” هذا، ما قد يساعد على إلقاء بعض الضَّوء الكاشِفِ على ما يعاينه اللُّبنانيُّون ويعانونه جرَّاء خيارهم تجاه المشاركة في الانتخابات النِّيابيَّة المقبلة.

وِاقِعُ الأَمْرِ، تَتَوجَّسُ قوى سياسيَّة عديدة في لبنان، في هذه الأيَّام، خِيفَةً من تدنِّي نسبة اقتراع النَّاخبين، في الانتخابات النِّيابية المقبلة؛ وثمَّة مخاوف، مسيطرة، كذلك، من مقاطعةٍ شعبيَّة للانتخابات، في ظلّ تفاقم ظروف عامَّة، سياسيَّة وإدارِيَّة، شديدة الصُّعوبة وذات قسوة وحشيَّة قاتلة. تتوالى الأزمات المعيشية والاقتصادية، عبر هذه الظُّروف بما يَدُلُّ على استحالةٍ ما لأيِّ حلٍّ داخليِّ؛ إذ يرافقُ كلَّ هذا، عجزٌ مقيمٌ للدَّولة عن تلبية مطالب النَّاس، وأبرزها انقطاع الكهرباء وارتفاع سعر صرف الدُّولار. وتُظهرُ نتائج استطلاعات مراكز إحصاءٍ عديدةٍ، أنَّ مؤشِّرات الحماسة الشَّعبِيَّةَ للاقتراعِ ليست مرتفعة على الإطلاق. ولقد دفع، هذا الحالُ، بهذه القوى السِّياسيَّة، إلى الإغراقِ في دعوتها النَّاخبين للإقبال بكثافةٍ على صناديق الاقتراع؛ وذلك بإغرائهم، أو «إغوائهم»، عبر تنظيمِ كثيرٍ من اللِّقاءات الشَّعبيَّة الحاشدة، والقيامِ بزياراتٍ عامَّةٍ وخاصَّةٍ لهم، وتنامي أخبارٍ عن دعمٍ ماليٍّ لمساعدة النَّاخبين، ناهيكَ بالحملاتِ الإعلامِيَّةِ التي ما برحت تضجُّ بها محطَّات التَّلفزيون، وجدران الشَّوارع.

لَعَلَّ مِنْ أَبْرَزِ ما يقف في وجه الحماس الشَّعبي للاقتراع، ما يُظهره واقع التَّرشيح ومسير معظم الحملات الانتخابيَّة الرَّاهنة. ثمَّة، من جهة أولى، استنتاجٌ لضَعفِ الإمكانِيَّاتِ الفعلِيَّةِ لإحداثِ تَغييرٍ فعليٍّ في طبيعة تشكُّلِ المجلسِ النِّيابي العتيد. يُنْبِئُ واقعُ الحالِ أن لا تغيير فعليِّ أو ملموسٍ، في النَّوعِيَّة الفِكرِيَّةِ والسِّياسِيَّةِ لغالِبِيَّةِ المرشَّحين، خاصَّة وأن منهم عديدًا لا بأس به من أعضاء المجلس النِّيابي المنتهية ولايتهم، وقلَّ من يخرجُ عن نمطيَّة وجود هؤلاء، من المرشَّحين الجُدُد؛ فهم إمَّا من أبنائهم أو أحفادِهِم، أو المقرَّبين من محازبيهم؛ وكذلك الحال مع مجموعات الأحزاب والتجمُّعات السِّياسيَّة التي ينتمون إليها؛ خلا مجموعات متناثرةٍ من المنادين بثورةٍ على الوضعِ العامِّ الرَّاهن. وإن كان من رجاءٍ، من جهة ثانية، في أيِّ تغيير ممكن، فهذا لن تصل نسبته، وفاق ما تُبَيِّنُه دراسات العديد من مكاتب الإحصاء، إلى 15%.

لَا بُدَّ مِنَ التَّأكيد، كذلك، على أنَّ القانون الانتخابيِّ المعمول به، راهِنًا في لبنان، قانونٌ شديد التَّعقيدِ عملِيًّا، يبتعد إلى حدود شاسعة، عن جوهر الدِّيموقراطيَّةِ الرَّحبة والفاعِلة. إنَّهُ قانون يساهم، على سبيل المثال، في استبعاد المرشَّح الفرديِّ أو اللِّيبرالي، إذ لا يجيز ترشُّحه خارج الانتظامِ الإلزاميِّ بلائحةٍ انتخابِيَّةٍ؛ وقد لا يجد هذا المرشَّح مناصًا، في نهاية المطاف، من الالتحاق بلائحة قد لا تتوافق مع رؤيته «اللِّيبراليَّة». يضاف إلى هذا، التَّباري التَّصارعيِّ، بين اللّوائحِ المتنافسةِ، في مجال اكتساب النِّسبة الأعلى من الحاصل الانتخابِيِّ؛ ناهيك بالتَّنافسِ التَّزاحمِيِّ في ما بين مرشَّحي اللَّائحة الواحدة، للاستحصال على الصَّوتِ التَّفضيليِّ ضمن اللَّائحةِ عينها.

يضافُ إلى كلِّ هذا، وما فيهِ من معوِّقاتٍ لا يستهانُ بها، أن ثمَّة عاملًا أساسًا، لا يمكن تجاهله على الإطلاقِ، خاصَّةً وأنه سلوكٌ متوارثٌ ومعتادٌ في مجال الانتخاباتِ في لبنان؛ وإن كان لا يلاقي اعترافًا رسمِيًّا بوجوده. إنَّه عاملُ فاعليَّةُ إغراءِ المال الانتخابي وإغوائهِ، في تَوَجُّهِ المرشَّحِ إلى النَّاخب، وكذلك في تفاعلِ النَّاخبِ مع مُبْتَغاهُ من العمليَّةِ الانتخابيَّةِ، وحَقِّهِ الوطنيِّ فيها. ويرى كثيرون، ههُنا، أنَّ في هذا العاملِ ما يُقَزِّمُ العمليَّة الانتخابيَّة، من ماهيَّتها الوطنِيَّة العامَّة، لِتُصبحَ مجالًا بخسًا لتحقيقِ علاقةٍ فردِيَّةٍ وشخصِيَّةٍ بين النَّاخِب والمُرشَّح. تصبح الانتخابات، بهذا المنحى، صنفًا من «البازار» التَّجاري، أو المعرض التَّرويجيِّ للمرشَّحين، وغالبًا ما قد يتحوَّلُ الأمر إلى سوقٍ يجول فيه، المقتنع بجدواه، أو المضطر إليه، لينتقي ما يناسبه منه.

يَقِفُ المُواطِنُ، أمام هذا الواقع، مواجهًا خيارين أحلاهما مرُّ؛ أوَّلهما، أن يشاركَ في أعمال هذين «البازار» التِّجاريِّ والمعرض التَّرويجي؛ باحثًا عن مصالحه الخاصَّة، خاصَّة وأن الهاجس الوطنيَّ بالتَّغييرِ لم يعد واردًا بقوَّة، وأن المعركة الانتخابيَّةِ بحدّ ذاتها، تكاد تكون ميدانًا تنافُسِيُّا وتخاصميًّا محصورًا، بل وفي أحيان غالبة، تحارُبِيًّا أحَادِيَّا التَّوّجُّهِ، بينَ اللَّوائحِ من جهةٍ، ومرشَّحي اللَّائحةِ الواحدة، من جهةٍ أخرى. ثاني الخيارين، أنْ يستنكفَ هذا المواطن عن المشاركةِ في العمليَّة الانتخابِيَة، المُفْتَرَضُ أنَّهُ يؤمن بضرورة التَّغيير الوطنيِّ من خلالها. وفي كلا الحالين، فإنَّ هذا المواطن لن يكون مُوَاجِهًا ما واجهه «أوديسيوس»، من «خيارٍ صعب»،على الإطلاق؛ فما يواجهه المواطن، يبقى من صنف الخيارين اللذين أحلاهما مُرُّ. ومصدر المَرارِ، ههُنا، أنَّ الشَّأن الانتخابيَّ، يُضّيِّعُ مفهومَه الوطنيَّ والقِيَمَ المرتبطةَ بهذا المفهوم؛ كما أنَّ المواطن يخسرُ، تاليًا، حقَّهُ في الوطنِ وواجِبه تجاه هذا الوطن.

واقعُ الأمر، أن لا جدوى حقيفقَّة للوطن أو للنَّاخب في أيٍّ مِن هَذينِ الخِيارين؛ إذ المُواطِنُ في كِلّيْهِما بين الاستغباءِ الذَّاتيِّ والقُصورِ الوطنيِّ.
لَا يُمْكِنُ لِلْمُحَقِّقِ المُتقصِّي ولا للمُخَلِّلِ الحصيف والمنصف، سوى أن يقرَّا لناسِ هذه الشَّبكَةِ المُمسِكَةِ بزمامِ السُّلطةِ في لبنان، بتفوُّقِهِم على أيِّ نِظامِ حُكمٍ سِياسيِّ في المنطقةِ، إنْ لم يكن في العالم، بِالمحافَظَةِ الثَّابِتَةِ والجَبَّارةِ، الجَلودةِ والعبقريَّةِ، المُتَوَقِّدَةِ ذكاءً والمُتَأَجِّجَةِ دَهاءً، على وجودِهِم في رِحابِ السُّلطةِ ومراكِزْ القَرارِ الأساسِ فيها؛ والعملِ الدَّؤوبِ، من ثمَّ، على بَسطِ نفوذهم وتعزيز قواهم، رَغم تقلُّب العديدِ من الأوضاعِ المحلِيَّةِ والدَّولِيَّةِ، وتبدُّل الكثيرِ من الأحوالِ السِّياسِيَّةِ الخاصَّةِ والعامَّةِ، ودخولِ كثيرٍ من المُحْدَثِ والمُسْتَحْدَثِ مِنَ القِيَمِ المعاصرةِ والمفاهيمِ المستجَدَّةِ العائدةِ لها، بنجاحِها المنقطعِ النَّظيرِ.

ولا بُدَّ من التَّأكيدِ على ناسِ هذه الشَّبَكَةِ، وهم يتربَّعونَ سُعداءَ على عرشِ هذه الحال، من الاستقرار والثَّبات، كابرًا عن كابرٍ؛ منذ أن كان اللبنانيون يعيشون في القرن التَّاسع عشر، زمن المتصرِّفيتين، ومن ثمَّ في عهود المتصرِّقيَّةَ الواحدة؛ وبعد ذلك، في القرن العشرين، تحت سلطة نظام الانتداب الفرنسيِّ، ومن ثمَّ في أجواء إطلاق دولة لبنان الكبير، بضمِّ الأقضيَّة الأربعة، وصولًا إلى دولة الاستقلال، بجميع مراحلها، وحتَّى هذا اليوم من القرن الحادي والعشرين.

يَبْقَى أَنَّ النَّجاةَ من هذا الوقوف المُوهِنِ للكيانِ، والباعثِ لليأسِ، أمامَ بابِ «خيارين أحلاهما مرّ»ُ؛ والإقرار، تاليًا، بمزيدٍ مِن الإملاقِ السِّياسيِّ والإفلاسِ المعيشيِّ، مع العوارض الدَّائمة للخيبةِ الوطنِيَّةِ المضعضعةِ للوجودِ السَّويِّ، والمُهينةِ للحقِّ الإنسانيِّ في العَيْشِ الكريمِ؛ فهذا يعني، بِكُلِّ جلاءٍ، فَشَلَهُم في الوصولِ إلى إيجابيَّةِ توازي أو تشابه أو حتَّى تفتربُ مِمَّا وقفَ في مثله بطل «الأوديسية». لقد واجه «أوديسيوس» «الخيار الصَّعب»، ونجح في مواجهته؛ بإيمان مطلق لضرورة وصوله إلى مملكته في «إيثاكا»، حيث زوجه وابنه. وكان لهذا الإيمان المطلق، أن حفَّزه على النَّجاح في قرار التَّحدِّي الذي اتَّخذه. وكان لنجاحه هذا، أن زوَّده، تاليًا، بإيجابِيَّةٍ أطلقته إلى رحابِ البطولةِ الذَّاتيَّةِ والعائليَّة، فَضلًا عن انفساحِ وجودِهِ الإنسانيِّ على مدىً يتجاوزُ، بفاعِلِيَّةِ حيويَّةِ دوامِهِ، مَحدُودِيَّةَ المكانِ والزَّمانِ، ليصبحَ قدوةً رائعةً للنَّجاح الإنسانيِّ في مواجهة التَّحدِّي والانتصارِ فيهِ. ومن هنا، فإنَّ لا حلَّ أمام اللبنانيين، في هذا المجال، سوى بأن يزيلوا أساس ما هم منغمسون فيهِ من بؤسٍ سياسيٍّ ووطنِيٍ، على حدٍّ سواء؛ باعتمادهم الطَّائفيَّة السيساسيَّةِ ركيزة لفاعليَّة بلدهم السياسية،؛ ولذا، فإنَّ للبنانيين، جميع اللبنانيين، أن يعتمدوا مبدأ التَّفكير القائم على الحق في المواطنة، من دون سواها، منهجًا وأدوات فكر للعيشِ الوطني.

تَنْهَضُ المُواطَنَةُ، عامِلَ فِعلٍ أَساسٍ بينَ المُقتنعينَ بمفاهيمها ومُعتَنِقي مبادئها ومناهجِ العملِ القائمةِ عليها؛ فَتُوَحِّدَ نظرتهم إلى التَّعامل مع الوطنِ، وتُوجِّهَ تصرُّفاتهم، في ما توجِّهُه، إلى الانتخابات النِّيابيَّة، لتكون ممارسةً حرَّةً نحو الوطنِ وبالإتجاهِ مسلكِيَّتِهِم الوطنيَّةِ السَّويَّةِ والصَّحيحَةِ فيه، وليس تجاهَ تلك الـ»ثلاثينَ مِن فَضَّةٍ»، التي باع بها «يهوَّذا الإسخريوطيّ»، إنسانيَّتَهُ بِكامِلِها مع حضورِهِ التَّاريِخيِّ على مرِّ الدَّهرِ، قَبْلَ أن يَبيعَ بِها «السَّيِّد المسيح».