دروسٌ في النقد والبلاغة
الدرس الثامن عشر: التعبير الحقيقي والتعبير الخيالي
مِنَ الكلامِ مَا يُراد به مجرَّد التعبير عَن حقيقةٍ مِنَ الحقائقِ، ومنه مَا يُقصد به بيان إحساس المتكلِّم بتلك الحقيقة.
ولما كَان مجرَّد الإفهام هو غاية الضرب الأوَّل؛ فإِنَّ المتكلم يستخدمُ فيه الألفاظ بمعانيها المألوفة التي وُضِعت لها؛ حتَّى يكونَ قادرًا على نقلِ فكرتهِ في بساطةٍ ووضوحٍ.
فإذا أرادَ المتكلم أن يتجاوز ذلكَ إلى التعبير عن شعورهِ، فإِنَّه يضطر في كثيرٍ من الأحيان إلى أن يُحَمِّل ألفاظَه من المعاني والصور مَا ليس لها في وجودها اللُّغويِّ؛ لأن وجدانهِ لا يدرك الأشياء إدْراكًا حِسِّيًّا مَحْضًا؛ بل يلوِّن وجودَها بما فيه من انفعالاتٍ وعواطف.
فأنت إذا أدركت هبوب الريح مثلًا، وأردت أن تُعبِّر عن هذه الحقيقة قلت: “هبَّت الريح”، أَمَّا إذا أردت أن تُضيفَ إلى ذلكَ إحساسك بقوَّة هبوبها فلعلَّكَ تقولُ: “عصفت الريح”، فإِن بلغت تلك القوة حَدًّا غير مألوفٍ يروعك بما فيه من صخبٍ وثورةٍ، فربَّما قلت: “زمجرت الريح”، وقد تتجاوز ذلكَ كله فترسم لها صورةً جديدةً تمثل إحساسك بثورتها كما فعلَ مسلم بن الوليد حينَ وصفَ عاصفة في وادي جبلي، فقالَ:
فأنتَ ترى كيف نقل (الرياح) من مدلولها اللغويِّ المألوف إلى صورة جديدة فيها حياة إنسانية ليست للريحِ في الحقيقة؛ ليعبر بذلكَ عَن إحساسه بثورة الطبيعة بينَ تلكَ الشعاب الضخمة التي تحبس الرياح العاصفة، فهي تنطلق هنا وتزيد هناك في دوامةٍ هائلةٍ.
وهكذا، تجد لديك أربع عباراتٍ عَن هبوب الريح تتفاوت في درجتها حسب إحساس المتكلم، أَمَّا العبارتان الأوليان – مع اختلافهما في القوَّةِ – فَلَا تخرجانِ على المعنى اللغويِّ للألفاظِ، على حينِ تُجاوز العبارتان الأخيرتان ذلكَ إِلَى معانٍ جديدة هي صورة لإدراكِ المتكلِّم للريحِ من خِلال شعوره ووجدانهِ؛ لذلكَ نُسمِّي مثل هاتين العبارتين مجازًا؛ لِما فيهما من خيالٍ يبعد بهما عَن مجرَّد الحقيقة، ويجاوزها إلى شيءٍ جديدٍ.
والتشبيه كذلكَ من مظاهر التعبير الخيالي، وإن لم يُوغِل في الخيال إيغال المجاز؛ فإِنَّه لا يكتفي بذكر حقيقة الشيءِ؛ بل يعقد بينه وبينَ غيرهِ مِنَ الأشياءِ علاقةَ مماثلةٍ تقوِّي هذه الحقيقة وتؤكِّدها وإِن لم تخرج بها عَن طبيعتها في الواقع، واستمع إلى قول الشاعر:
فستجد أَنَّه قد شبَّه حاله مع صاحبتهِ بصورةٍ قويَّةٍ مُعبِّرة، هي بلا شكٍّ مظهرٌ من مظاهر الخيال الذي يربط بينَ أشياء تبدو في الواقعِ الخارجي متباينةً لا ارتباط بينها؛ ولكن إحساس الأديب وخياله يجدان بينها من التجانُسِ والمماثلةِ ما يطمس هذا التبايُن الظاهريَّ.
وَلَا شكَّ أَنَّ الأديبَ أميلُ الناس إلى التعبيرِ الخيالي؛ لأنَّه بثقافتهِ الواسعة وشعوره المرهف لا يُدرِك الأشياء في الغالبِ إدراكًا ذهنيًّا مَحْضًا؛ بل يُضفي عليها من إحساسه مَا يضيف إلى حقيقتها حقائق جديدة، يُعينه على ذلكَ رصيدُه الأدبيُّ الذي يُجَنِّح خَيَالَه، ويجعله أقدر على التحليق والإبداع، والعالم على نقيض ذلكَ يقصد إلى الحقائق كما هي في أسلوب واضح بسيط، فهو يتجنَّب التعبير الخيالي عن عمدٍ؛ لأنَّ هذا التعبير يتجاوز طبيعة الأشياء إلى تصوير إحساسنا بها فيبرزها في صورةٍ مخالفةٍ لما هي عليه في الواقع، وهذا يُخالِف مَا ينبغي للعلم من تسجيل للحقائق كما هي دونَ إقحامٍ لعاطفةِ العالم أو شعوره.
وقد يخلو الكلام من التعبير الخيالي في بعضِ المواطن التي تُوحِي بهذا التعبير؛ لأنَّ المُتكلِّم لم يُؤتَ من الثقافة ودِقَّة الإحساس ما يُنمِّي خياله وقُدْرته على التصوُّر.
استمع إلى طه حسين في قصة من كتابه (المعذَّبونَ في الأرضِ): “كانَ يسعى في ظلمة الليل القاتمة، قد هدأ من حوله كل شيءٍ، وجثم على الكون سكونٌ رهيبٌ مرهق، ولو قد رفع رأسه إلى السماءِ لرأى فيها نقطًا مِنَ النورِ ضئيلة منتثرة؛ ولكنه لم يكن يرفع رأسه إلى السماءِ، ولم يكن يطرق برأسهِ إلى الأرضِ، وإِنَّما كانَ يمضي أمامه يمدُّ بصرَه، كأنَّه يريد أن يخترق به هذه الحُجُب الكثيفة من الظلام؛ بل لم يكن يلتفت عن يمين ولا عَن شمال؛ وإنما كان أشبه شيء بقطعة من الجماد قد صوُّرت في صورة إنسان، ولو كان شاعرًا أو راويةً للشِّعْر أو على حَظٍّ من ثقافة لذكر تلك الإصبع الورديَّة التي تُشير إلى ظلمةِ الليل بأن تنجلي، أو لتصوَّر سهمًا ضئيلًا من الفضة النقيَّة يمضي في هذه الظلمات المتكاثفة فتهزم أمامه متهالكة وتسَّاقط أمامه نجوم السماء في الأفقِ الغربي كأنَّما يدعو بعضها بعضًا إلى الفرار؛ ولكنه لم يكن من هذا كله في شيءٍ ولم يكُنْ يُقَدِّر أن شيئًا من هذا كله يمكن أن يوجد أو يخطر لأحدٍ على بال”.
فالكاتب هنا يُصوِّر شخصًا بائسًا لم يُتَحْ له حظٌّ من ثقافة، ولم تدع له ضرورة العيش الملحَّة وقتًا يلتفت فيه إلى مَا في الطبيعةِ من جمال، فهو مشغول عنها ببؤسه وفاقته وسعيه وراء الرزق، وخياله لذلكَ مُعطَّل؛ لأن عجزه عَن الإحساس بهذا الجمال يقعد به عن التماس صور خيالية تُعبِّر عَمَّا حوله من مظاهر الطبيعة المُتفتِّحة ليومٍ جديدٍ، أَمَّا مَنْ هم أسعد منه حَظًّا، فإِنَّ لديهم من الثقافةِ وتوقُّد الإحساس ما يلفتهم إلى ذلكَ الجمال وما يُعينهم على التعبيرِ عن شعورهم به، وما تلك الصور المجازيَّة لإصبع الفجر الوردية أو سهمه الفضي النقي إلَّا رمزًا لما يمكن أن يتمثَّله خيال الأديب في مثل ذلكَ الوقت.
على أَنَّنا يجب ألَّا نفهم أن الأدب لا بُدَّ أن يكون في معظمه تعبيرات خيالية محضة، فإِنَّ الإسراف في الخيالِ يُفضي بالكلامِ إلى الصنعة والتكلُّف، والأديب الموهوب لا يَلْجأ إلى التعبير الخياليِّ إِلَّا بوَحْيٍ من إحساسه وطبيعة الموضوع الذي يكتب فيه، أَمَّا مَن يعمد إلى ذلكَ عمدًا، ويتنكَّب التعبير الحقيقي عن قصدٍ، وإنْ أدَّى ما يريد أداءً بليغًا، فإِنَّه يجني على أدَبِه، ويخرج به عَمَّا ينبغي للأدب من صدق التصوير لنفس منشئه، والتعبير الخيالي مع طرافته وقوة تأثيره ليس دائمًا أبلغ مِنَ الحقيقةِ، استمع إلى قولِ كثير عزَّة:
ثُمَّ إلى قوله:
فإِنَّه قد عبَّرَ عن إحساس واحد في صورتين: الأولى حقيقة بسيطة، والثانية خيالية مُركَّبة، ومع ذلكَ فإِنَّ بيته الأوَّل لا يقل إجمالًا عن بيته الثاني.
واستمع أيْضًا إلى قول الشاعر:
ثُمَّ إلى قول أبي تمام:
فستجد أنَّ طرافة التعبير في قولِ الشاعر: “وَلكن بعض الذكر أنبهُ مِنْ بَعْضٍ” قَد عوَّضته عَن الخيال، فأصبحَ يُضارع في جمالهِ صورةَ أبي تمام في بيتهِ الثاني.
ومن ذلكَ أيْضًا قول إبراهيم بن العباس:
وقول أبي تمام في المعنى نفسه:
وَلَا شك أَنَّ قول أبي تمام معَ خلوه من الصور الخيالية أجمل من قول إبراهيم بن العباس على مَا فيهِ من تشبيه.
فالتعبير الحقيقي والتعبير الخيالي إذن أسلوبان يستخدمهما الأديب حسب ما يُمليه عليه طبيعةُ موضوعِه ومزاجه الفني، ومع ذلكَ فالتعبير الحقيقي هو الأصل؛ وإِنَّما نلْجأُ إلى الخيالِ لنستعين به على رسم صور جميلة مُعبِّرة عن فكرتنا وإحساسنا في بعضِ المواطن التي يحسن فيها رسم مثل تلك الصور.
وسنعرضُ عليكَ فِي الدروس التالية دراسةً لبعض تلك التعبيرات الخياليَّة، وهي: التشبيه، والاستعارة، والكناية.
[1] الأكناف: جمع كنف، وهو الجانب.
[2] جمع جلمود، وهو الصخر.